كما كان متوقعا، ينتظر لبنان عودة مئات الآلاف من ابنائه من مغترباتهم، ليس لقضاء الصيف كما اعتادوا، بل قسرياً لضيق البلدان التي هاجروا اليها بهم بسبب استبداد الأزمة المالية العالمية وما خلفته وستخلفه من ضحايا. إلا ان المغتربين في هذه المرة، يعودون بقلوب واجفة الى وطن يضيق اصلا بمن فيه فكيف بالوافدين الجدد؟
نيويورك ـ نزار عبود
ربما لن تعود أعداد كبيرة من المغتربين اللبنانيين هذا الصيف فقط من أجل الإدلاء بأصواتهم في الانتخابات «المصيرية»، بل أيضاً لأن العالم ضاق بهم إلى حدّ قد تصبح معه العودة إلى الوطن الملاذ الأخير.
المغتربون الذين حملوا لبنان طويلاً وتحملوا معاناة المنافي في الخليج اللهّاب، والشمال الجليدي، لكي يكسبوا رزقاً لم يؤمنه لبنان لهم، ولكي يغدقوا على الأهل جزءاً كبيراً من دخلهم، وكثيرون منهم اشتروا ديون لبنان وحملوها، قلقون هذه الأيام مما ينتظرهم عند العودة التي ستفرض عليهم. ويتساءلون، هل حب الوطن متبادل؟ أم هو مثل معظم قصص الغرام، موحش من طرف واحد؟
في الأزمات السابقة، وأبرزها حرب الكويت عام 1991، عاد اللبنانيون مرغمين ليزاحموا الأقارب في المساكن الضيقة. فتعلموا أن الغربة، وإن طالت، لا يمكن أن تصبح وطناً. صمموا على أن يكون لكل منهم «مرقد عنزة» في لبنان مهما غلا ثمن الأرض وتصاعدت تكلفة البناء. ودفعوا راضين أثماناً باهظة لإنشاء مساكنهم على قطع أرض ضيقة إذا ما قارنوها بمساكن وحدائق ابتاعوها في الخارج.
اليوم يواجه المغتربون بيئة طرد متعددة الأوجه ومن مختلف القارات. نزوح جماعي يتم من دول الخليج التي قلصت ميزانياتها وأوقفت الكثير من مشاريعها تأثراً بالخسائر الضخمة التي منيت بها في استثمارات خارجية، فضلاً عن التدهور الحاد المفاجئ في عائداتها من النفط والغاز. كذلك فإن الركود الاقتصادي القاسي لم يوفر قارة ولا مدينة في أوروبا والأميركيتين وأوستراليا. أمر جعل البقاء في الخارج مكلفاً للشباب الذين يخسرون وظائفهم بدفعات بالآلاف، ولم يعد يستحق البقاء لعدد كبير من الشيوخ أفنوا زهرة شبابهم يكافحون من أجل كسب لقمة العيش لهم ولمعيليهم.
الذين هاجروا في أوج الحرب الأهلية ناهزت أعمار فئة كبيرة منهم الستين. وهؤلاء يجدون أن التقاعد في الخارج شديد البرودة، ويحلمون بدفء الوطن طوال سنوات الغربة. لكنهم قد يضطرون إلى تقديم مواعيد التقاعد تحت وطأة الظروف.
أحدهم أبو إلياس، البالغ 67 عاماً، المقيم في حي بروكلين في نيويورك منذ ما يزيد على ربع قرن، غادر بيروت في أوج الحرب الأهلية، وبدأ أعمالاً ووظائف صغيرة. لكن بفضل نشاطه انتقل إلى العمل الفردي الخاص ليصبح مقاولاً، ثم تاجراً ناجحاً في العقارات.
قبل عام كان أبو إلياس يعتقد بأنه جمع ثروة كبيرة تمكنه من التقاعد بكثير من الراحة والتنعم بعائد من مدخراته لا يقل عن ثلاثة آلاف دولار شهرياً بعد شراء سيارة ودفع أقساط مدارس أبنائه الثلاثة.
غير أن ما جرى منذ عام بدد أحلامه. أعمال المقاولة توقفت فجأة بعد عزوف المصارف عن الإقراض. وشهدت استثماراته العقارية المرتبطة بقروض رهنية تدهوراً سريعاً في قيمتها، بحيث إنه لو باع كل شيء وسدد القروض الباقية في السوق الحالية، فسيخرج بأقل من عشر ما كان سيحصل عليه لو باع قبل أقل من عام فقط. معنى ذلك أنه سيكون محظوظاً لو استطاع تأمين مئة ألف دولار بعد تصفية كل ممتلكاته ونقل متاعه إلى الوطن.
يقول بمرارة رافضاً الإفصاح عن هويته الكاملة خشية الشماتة «لو رضخت لقدري، وعدت مع أسرتي إلى الوطن بعد تعطل الأشغال في الولايات المتحدة، ماذا عساي أن أفعل هناك؟»
أبو إلياس يمتلك منزلاً في جبل لبنان. لكنه يتوجس من أنه لن يجد الحد الأدنى المطلوب لبدء حياة جديدة كريمة في الوطن. وهو قلق على أبنائه من غربة الوطن. يخشى من أنه لن يلقى طريقاً دون مطبات، ولا كهرباء من دون دخان ولا ماء في الحمامات، ولا علاج لائقاً بتكلفة معقولة لكونه لا يتمتع بتأمين صحي مثل المقيمين في لبنان. وبصفته عائداً من الاغتراب سيتعين عليه أن يحافظ على مستوى معين من العيش، كما ينتظر الأهالي منه، وإلا فإنه سيكون أضحوكة الضيعة.
سيحوّل بقية مدخرات العمر إلى مصرف لبناني. وهل يحوّل المبلغ بالدولار أم بالليرة؟ فهو إلى جانب قلقه من تآكل قيمة العملات كلها، لا يثق بمستقبل الاقتصاد اللبناني الرازح تحت وطأة 50 مليار دولار من الدين العام، ولا يدري إن كانت العملة المحلية أكثر أمناً من دولار متأرجح. ويتساءل، «إذا كانت المصارف الغربية بضخامتها وأنظمتها الشديدة قد انهارت تحت ضغط الأزمة المالية العالمية، فلماذا تكون ركائز المصارف اللبنانية أمتن؟».
أيضاً لا يغيب عن أبو إلياس أن مباشرة عمل مهني في لبنان من نوع فتح مشروع صغير، دكان أو مزرعة، ليس سهلاً. فهو يشعر بأن عليه إنفاق معظم رأسماله من أجل الحصول على التراخيص اللازمة ولن يلقى أي تسهيلٍ أو تشجيعٍ حكوميّ من أيّ نوع كان. وإذا نجح في بيئة المنافسة، تأخذ الحكومة معظم أرباحه كضرائب. وإذا فشل فلن يلتفت إليه أحد وسيُترك ليواجه مصيراً مجهولاً.
لبنان كما يراه أبو إلياس، ليس «باب الحارة» التي تشدّ من عضد أبنائها. بل هو «حارة كل من إيدو إلو» كما يراه في نشرات الأخبار المنقولة مباشرة من بيروت، وكما شعر في رحلاته حين يمدّ «ابن الدولة» يده إلى جيوبه في كل خطوة يخطوها عند شراء منزل أو إجراء معاملة، أو عندما يريد تسجيل سيارة أو إجراء الفحص الميكانيكي، فضلاً عن كل الفواتير غير المعقولة في خدمات الهاتف والإنترنت. يقول إنه يدفع ثمن الخدمة الصغيرة أضعافاً مضاعفة مقارنة بما تعوّد دفعه في غربته. ويتحسر «أشعر بأن الوطن أكثر من غربة».
مئات الآلاف من اللبنانيين قلقون من العودة القسرية التي تفرضها عليهم أوضاع الاقتصاد العالمي. هؤلاء يشعرون بأنهم يعودون ليسيروا في حقل ألغام، ويتخوفون من أن تؤدي العودة الجماعية نهاية الفصل الدراسي، إلى تفجّر موجة غلاء فاحش في كل شيء من المسكن إلى الطعام. وبقدر ما يتشوّقون إلى الوطن الحلم، يخشون أن يتحول إلى كابوس. غادروا لبنان مكرهين، ويعودون إليه مكرهين بعد فقدان سبل الرزق في كل مكان في وقت واحد.


لبنانيو أميركا

يمثّل الأميركيون من أصل لبناني النسبة الأكبر من الجالية العربية في الولايات المتحدة (32.4 في المئة)، كما يمثّلون ما نسبته 0.16% من عدد سكان أميركا. يتبوأ اللبنانيو الأصل مناصب عالية، منهم المرشح الرئاسي، رالف نادر (الصورة)، ووزير المواصلات الحالي، الجمهوري راي لحود، فضلاً عن عشرات الشيوخ والنواب وحكام الولايات.