بعد مرور أسبوعين على وقف الحرب على غزة، سكنت أصوات لبنانية كانت تصدح «عالقدس رايحين شهداء بالملايين». والأكفان التي حُملت على أكتاف المتظاهرين في بيروت اعتراها الغبار وسيّرت إلى مدافنها. فهل تحوّلت التظاهرات إلى مجرّد ذكرى كئيبة، أم هي عبّدت الطريق لمقاومة مدنية مستمرّة؟
نارمين الحرّ
«كانت ردة فعل. لم أشارك في التظاهرات، وأعتقد أنّه ليس لها أي تأثير»، يقول طالب الدراسات العليا في الجامعة اللبنانية، عباس أبو زيد. «نعم، كانت ردة فعل، لكن هذا ليس خطأً، وخصوصاً إن تبعه فعل»، يردّ ربيع صلاح، الناشط السياسي الذي شارك في تنظيم تظاهرة «مسيرة التوابيت» في 2 كانون الثاني الماضي، لقد «أظهرت تحركاتنا أن المقوّمات جاهزة لمشروع مدني مقاوم يريد دحر الاحتلال». وفيما يتململ أبو زيد من التظاهرات، ترى الناشطة وأستاذة العلوم البيئية في جامعة البلمند رانيا المصري «إننا نخطئ حين نعتقد أن تظاهرة ما ستغيّر نظاماً أو توقف حرباً. تظاهراتنا صرخة اعتراض أردنا منها أن تصل أوّلاً إلى أهلنا في غزة، المهم أن نستمر، وينجم عن التظاهرات عمل مدني مقاوم مستمر».

الشحّ في المشاركة

أكثر من 20 تظاهرة في العاصمة وحدها. كان لافتاً قلّة عدد المشاركين والمشاركات، ما يطرح تساؤلات عن مدى معارضة الشارع اللبناني لمجازر غزة أو مدى إحباطه من التحركات المدنية أو ماهيّة التقصير من الجهات المنظّمة.
«أعتقد أنّ الغضب أكبر»، تقول المصري. وتعزو السبب في قلّة عدد المتظاهرين إلى عدم التنسيق بين القوى المعارضة. أحياناً، كان اليوم الواحد يحمل في طياته أكثر من تظاهرة.
إن الشحّ في المشاركة، مهما تكُن أسبابه، يجعل من المشاركين والمشاركات أقلية، «لكن أغلب الحركات التحررية، كحركة مناهضة العبودية أو حركة تحرر المرأة بدأت بأعداد قليلة»، يقول الناشط وأستاذ العلوم السياسية في جامعة NDU، يوجين سنسنغ. ويرى سنسنغ أن على أي حركة مدنية أن تعرف لغة الشارع اللبناني لتستقطبه وتتواصل معه.

الشعارات

يتحفّظ أبو زيد على التظاهرات من أجل غزة، «فلا جديد في شعاراتها، الوسائل نفسها، ضجيج وصراخ وتوجيه إهانات وتحقير لشخصيات وقيم مسيطرة». «لكنها صادقة! أحياناً فارغة، لكنها وسيلة تعبير صادقة»، يقول طالب الحقوق عبد العزيز إبراهيم.
عند البحث عن شعارات أطلقت حديثاً، غالباً ما تحار العقول. وكثيراً ما يأتيك جواب مماثل لجواب طالبة الإعلام سالي حلاوي، «أحدث الشعارات أظنّها لحذاء الزيدي، لكن خلال تظاهرات غزة كانت شعارات ما قبل التاريخ نفسها».
يعلل صلاح صدأ الشعارات بعدم استكمال حملة المقاومة المدنية على عكس استمرار المقاومة المسلّحة. فشعارات 1980 حافظت على نفسها حتى 2009 وغاب الإبداع. «لما ننزل على الشارع أكثر تتجدد الشعارات»، ونحن الآن، بالنسبة إليه، أمام عملية إحداث تغيير بالشكل والمضمون، «فالمقاومة المدنية تجبرني على أن أستوعب كل المناضلين، فلو كانت فتاة بجانبي تتظاهر، فلن أقول نحن الرجال».

العدالة الجندريّة

«نحن الرجال ذكرت خلال التظاهرات التي شاركت فيها»، تقول حلاوي، فما مدى حضور المرأة وفعاليتها في شكل التظاهرات لنصرة غزة ومضمونها؟ بعض الإشارات ترسم صورة أوّلية لدور المرأة الحالي في التحركات.
يتحدّث صلاح عن تجربته الشخصية، قائلاً: «لقد شاركت في تنظيم تظاهرة التوابيت، وكانت المنظمة الرئيسية فتاة». إضافة إلى ذلك، كانت هناك عدة إسهامات أنثويّة، منها المساهمة في الإعداد لحملة تبرعات في الجامعة الأميركية، وتظاهرة رقيقة القلب مليئة بالورود قامت بها مجموعة من الأمّهات.
«إن شجاعة الناشطات اللبنانيات جزء أساسي من أي حركة تحرر»، تقول مديرة مركز دراسات المرأة في العالم العربي وأستاذة الإعلام في LAU، الدكتورة ديما دبوس. غير أنها تتابع، «كثيراً ما يستثمر الرجال دينامكية النساء في حركات التحرر، لكن بعد نجاح الثورة يقصى دورهنّ».

ماذا الآن؟

«الآن استمرارية الغضب مقاومة مدنية»، تقول رانيا المصري. والمقاومة المدنية تمتد من تظاهرة إلى سلوكيات يومية بسيطة كاستبدال قهوة ستاربكس ببديل، إلى حملة لبنانية لمقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل كتلك التي انطلقت عام 2003 بعد مجزرة جنين. مقاطعة البضائع الإسرائيلية مشرعنة في القانون اللبناني، لذا غالباً ما تستهدف الحملات الشركات المغذية للكيان الصهيوني. وقد دأبت مجلة «الآداب» على توثيق عدد من المنتجات الداعمة لإسرائيل، وتتوفر الدراسات على موقعها الإلكتروني.
واستكمالاً لحملة المقاومة، تقوم اليوم مجموعة سمّت نفسها «شباب المقاطعة» بتظاهرات دورية أمام ستاربكس. «نحن مجموعة مستقلة لسنا جزءاً من حملة المقاطعة التي بدأت عام 2003، لكننا على اطّلاع على مسيرتهم»، تقول منسّقة الحملة يارا حركة وهي تهمّ بتكبيل يديها أمام ستاربكس. واستطاعت المجموعة في أول تجمّع لها أمام ستاربكس ـــــ الحمرا أن تقفل المكان، ولو لبضع ساعات.
وينوي ملتقى ومقهى «ة مربوطة» إطلاق حملة تستهدف أصحاب المؤسسات والمقاهي لحثّهم على مقاطعة البضائع التي تدعم إسرائيل وتوفير بديل منها. وهناك أيضاً موقع رانيا المصري لمقاومة بيئية لإسرائيل (www.greenresistance.wordpress.com)، وحملة تفكيك أسلحة الصهيونية التي تهدف إلى فضح الجهات التي تقف وراء تسليح إسرائيل (www.disarmingzionism.wordpress.com). ولدى أفراد المقاومة تحدٍّ جديد إذ إن المزايدة على شركة الخطوط الخلوية «ألفا» رست على شركة «أوراس كوم» ذات علاقات العمل الوطيدة مع إسرائيل.


أبناؤكم ليسوا لكم

يلازم التظاهرات سؤال عن مشروعية اصطحاب الأولاد إلى التظاهر. وترى الاختصاصية النفسية دارين صالح «أن اصطحاب الأولاد إلى التظاهرات هو توجيه وإسقاط عقائدي على الطفل». لكنها تتفهم أن يصرّ الأولاد على النزول إلى بعض التظاهرات. وترى في هذه الحال أن «منعهم من المشاركة قد يحدّ من حريّة تعبيرهم، لذا من الممكن السماح لهم بالنزول شرط أن يخبر الأهل الأولاد ما هو التحرّك وما الهدف منه».