سماح إدريس *ما جرى ويجري لغزّة هذه الأيّامَ، استمرارٌ لنكبة فلسطين منذ واحد وستّين عاماً على يد إسرائيل والغرب الاستعماريّ على نحوٍ خاصّ: شكلٌ من أشكال الإبادة الجماعيّة أو المحرقة. وهذا أمرٌ بديهيّ، ولا حاجة إلى تكرارِ ما قاله البروفسور ريتشارد فولك (مندوبُ الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينيّة المحتلة) أو غيرُه لإثباته. إلّا أنّ ما قد لا يبدو بديهيّاً هو نفاقُنا في «دعم» القضيّة الفلسطينيّة لمواجهة هذه النكبة المستمرّة. ولا أعني هنا أنظمتَنا العربيّة فحسب (فمشاركتُها، بدرجاتٍ متفاوتةٍ، في قتل الفلسطينيين و/أو قتل «فكرة فلسطين»، معروفةٌ، إنْ لم يكن اليومَ، ففي فتراتٍ سابقة)؛ وإنما أعني أنفسَنا بالذات أيضاً، أيْ ما اصطلحنا على تسميته «الأحزاب والقوى والشخصيّات الوطنيّة والقوميّة».
أوّلُ مظاهر نفاقنا أنّنا ندْعم الفلسطينيين في فلسطين... ولكننا نَسْكت عن اضطهادهم بين ظهرانينا. نسيِّر التظاهرات، ونقيم أيّاماً إعلاميّةً، ونهتفُ حتى تُبَحَّ أصواتُنا، دعماً لغزّة في بيروت... غير أننا لا نفْعل شيئاً في البرلمان ومجلسِ الوزراء من أجل إقرار حقّ الشعب الفلسطينيّ في العيش الكريم بيننا إلى حين عودته إلى فلسطين. صحيح أننا، أحزاباً وقوىً و«شخصيّاتٍ» وطنيّةً وقوميّةً، ممثّلون اليومَ في كلّ المؤسّسات التشريعيّة والتنفيذيّة في لبنان؛ ولكنّ آخرَ همّنا همْ فلسطينيّو لبنان. نقرأ أنّ «الإخْوة» الفلسطينيين عندنا يقطنون في ما يُشْبه المعازلَ أو «معسكراتِ الاعتقال ذات البوّابةِ الواحدةِ للدخول والخروج»، فنأسف. ونَسْمع أنهم حُرموا ممارسةََ العمل في عشرات المهن (كالمحاماة والطبّ والهندسة) بعدما ألغى المجلسُ النيابيّ اللبنانيّ اتفاقيّةَ القاهرة عام 1987، فنتأفّف. ونقرأ ونسمع أنهم مُنعوا من تملّك شقّةٍ أو بيتٍ وفقاً لتشريعٍ ظالم ومنافٍ لمشاعر العروبة والأخوّة كان قد صدر عام 2001، فنتذمّر. إلّا أننا نسينا أنّ الأسفَ والتأفّفَ والتذمّرَ أمورٌ لم تعد مقبولةً منّا بعدما انتقلنا من كراسي النقّاقين خارج السلطة...
إلى كراسي السلطة نفسها! وتجاهلْنا أنّ الفرصة الآن باتت سانحةً لنطبّقَ جزءاً ممّا ناديْنا به ونظّرنا له طوال عقود، أيْ «أن نغيّر من الداخل» كما كنّا ندّعي. وأيُّ أمرٍ أجدر بأن نغيّرَه على هذا النحو من الأبارتهايد اللبنانيّ (والتعبيرُ لصديقي جلبير الأشقر) الممارَسِ على الفلسطينيين في لبنان؟
وثاني مظاهر نفاقنا أنّنا، معشرَ الأحزاب والقوى و«الشخصيّات» الوطنية والقوميّة، نَشْتم إسرائيلَ على ما تقترفه من جرائمَ في حقّ غزّة وفلسطين... لكننا نقول ذلك ونحن نأخذ شفطةً من سيجارة مارلبورو، أو جرعةً من كوكاكولا أو بيبسي كولا، أو قضمةً من ماكدونالدز أو بيرغر كنغ، أو رشفة من قهوة نسكافيه ـــــ وكلُّها شركاتٌ (أو من إنتاج شركاتٍ) داعمة لإسرائيل كما بيّنّا مليونَ مرّةٍ من قبل.
الأسوأ أننا نمارس الآن، في ظلّ العدميّة والانهزاميّة المستشريتيْن، التنظير «العلميّ» (والماركسويّ أحياناً) لمعاييرنا المزدوجة: فنقول إنّ العولمة لا تستطيع أن تجنّبَ إسرائيلَ الاستفادةَ من دورة الأموال والإنتاج في العالم؛ أو نزعم أنّ مقاطعتنا لشركةٍ داعمةٍ لإسرائيل سوف تضرّ بعمّالنا وفلاحينا واقتصادنا، وكأنّ هذه الشركة لم تَضربْ بعملها، أكثرَ من شركةٍ محليّةٍ أو إنتاجٍ محليّ؛ أو ندّعي أنّ توقفنا عن شراء منتجٍ ما لن يؤثّر في مبيعات الشركات الضخمة، ضاربين عرضَ الحائط بكلّ الإحصائيّات وبكلّ الوقائع التاريخيّة التي أثبتتْ نجاحَ المقاطعة في غير مكانٍ من العالم (الهند، جنوب أفريقيا...). وفيما يتوقّع المرءُ أن تطْلق الأحزابُ والقوى و«الشخصيّاتُ» الوطنيّة والقوميّة حملةَ مقاطعةٍ شاملةً للشركات الداعمة لاقتصاد دولة العدوّ الإسرائيليّ، وإنْ من باب التضامن الأخلاقيّ مع ضحايا غزّة لا غير، فإنّ ما يؤسَفُ له أنه ليس ثمة قرارٌ قياديٌّ حتى اللحظة لدى الغالبيّة الساحقة من الأحزاب الوطنيّة اللبنانيّة، العريقة وغير العريقة، بالعمل الحثيث والجادّ على ترويج ثقافة المقاطعة حتى تتراجعَ الشركاتُ الداعمةُ لإسرائيل عن دعمها!
ثالثُ وجوه نفاقنا أننا نطالب ليلَ نهارَ بدعم غزّة و«أهلِنا» هناك، ثم نصْرخ ليلَ نهارَ أيضاً: «لا لجرّ لبنانَ» إلى حربٍ جديدةٍ مع إسرائيل! بمعنى آخر: نحن لا نريد أن نمارسَ المقاومةَ المدنيّةَ (بمقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل مثلاً) لأنها «غيرُ ذات جدوى» كما نزعم؛ ولكننا لا نريد كذلك أن نمارسَ المقاومةَ المسلّحة الآن، لأنّ «لبنان يكفيه ما حلّ به من قتلٍ وخراب». فكيف، إذاً، سنساعد غزّةَ وشعبَ فلسطين، بالله عليكم؟ أبحضور القمم؟ أمْ باحتجاجات سليمان وصلّوخ؟ أبدموع السنيورة؟ أمْ بتظاهراتٍ لا تُستكمل إلا... بتظاهراتٍ جديدة؟
ثم... فليفسِّرْ لنا الناسُ ما معنى «رفض جرّ لبنان»؟ هل إسرائيل في حاجةٍ إلى ذريعةٍ لشنّ حربٍ جديدةٍ على لبنان لو كانت قادرةً على ذلك من دون أن تُمنى بخسائرَ كبيرة؟ ألم تكن تستطيع أن تستخدمَ، إذاً، ذريعة الصواريخ التي أُطلقتْ منذ أسابيع، ولكنها سارعتْ ـــــ بدلاً من ذلك ـــــ إلى تبرئة حزب الله، وباندفاعٍ يفوق اندفاعَ الحزب نفسه؟
ألم تكن تستطيع أن تطلبَ إلى أحد عملائها السابقين في الجنوب، أن يطلقَ صلْيةَ صواريخ على مستوطناتها، لـ«تردّ» بعدوانٍ جديدٍ على لبنان؟ ألا يشير الأمران (التبرئة وعدمُ الطلب) إلى أنّ إسرائيل هي التي تخشى أن «تنجرَّ» إلى جبهةٍ جديدةٍ تضْعفها، وقد تنْهكها، فضلاً عن أنها «ستلهيها» بالتأكيد عن استفراد غزّة وإكمالِ مجازرها فيها؟
وأخيراً، كيف نرغب في أن يتضامنَ العربُ مع لبنان «فعلاً لا قولاً» كلّما شنّت إسرائيلُ حرباً عليه، ولكننا نرفض أن يتضامنوا مع فلسطين اليوم... إلا بالكلمة (لو كانت «الكلمة» تدرك أنها ستُستخدم من أجل تجنّب الفعل الكريم، لغيّرتِ اسمَها إلى «هروبٍ» أو «جبْنٍ» أو «ذُلّ»!)؟
أعرف أنّ ما سأقوله الآن، ككثيرٍ مما قلتُه في السابق، غيرُ شعبيّ. ولكنني أطالب، فعلاً، بجرّ لبنان وسوريا ومصر والأردن والسعوديّة... وكلِّ البلدان العربيّة الأخرى إلى الحرب على إسرائيل، إنْ لم يكن بالسلاح مباشرةً، فبمدّ المقاتلين بالسلاح، أو بمقاطعة داعميه، أو بأيّ وسيلةٍ أخرى غيرِ الدموعِ والبياناتِ والكلمات وحدها.
إنّ جزءاً كبيراً من خسارتنا، كعرب، أمام إسرائيل، منذ النكبة إلى اليوم، هو أننا رفضْنا أن «ننجرَّ» إلى الحرب معها؛ بل ذهب بعضُنا إلى مصالحتها، وتوريدِ الغاز والبترول إليها، وإقامة علاقاتٍ تجاريّةٍ معها! وهكذا «جَرّتْ» إسرائيلُ كلَّ دولةٍ منّا على حِدة، وعَقدتْ صلحاً معها غصْباً عن شعبها، وقاتلتْ بالسلاح كلَّ مَنْ رَفض الصلحَ أو الاستسلام. وعليه، فأجدرُ بنا، بدلاً من أن نرفض «جرَّ» لبنان، أن نطالبَ بجرّ كلّ العالم العربيّ إلى مواجهة إسرائيل وأميركا، وبكلّ وسائل المواجهة المناسبة التي تتيحها ظروفُ المكان والزمان.
كلّنا، من المحيط إلى الخليج، شركاء مباشرون أو غيرُ مباشرين في إدامة نكبة فلسطين (1948- 2009). فمتى نصبح شركاء مباشرين في الانتفاضة الفلسطينيّة الجديدة... القادمة لا محالة؟
* رئيس تحرير مجلة الآداب
(هذا النصّ هو افتتاحيّة العدد الجديد من «الآداب» الذي يصدر خلال أيّام)