كانت الحياة اليوميّة في بلدة شبعا الحدودية، تدور مع دوران مطاحنها الخمس. وقبل الاحتلال الإسرائيلي، كانت المطاحن ملتقى أبناء البلدة وصلة الوصل بين الفلاحين والتجار، ومنطلق صلات القربى والمصاهرة

كامل جابر
لو حكَت جدران تلك المطاحن لأخبرت قصص كل أهالي شبعا. فقد شيدت في محيط طبيعي وبيئي هو الأروع في المنطقة. إذ تقع في الوادي الواقع بين منحدرين: الغربي حيث أحياء شبعا السكنية، والشرقي حيث تمتد الأشجار الزراعية من الفاكهة والجوز. والمطاحن مبنية على مجرى نبعي «عين الجوز» و«نبع المغارة» اللذين يلتقيان قبل الوصول إلى المطاحن ليكوّنا قوة الدفع الضرورية لحجارتها الثقيلة.
تأثرت حياة مطاحن شبعا بالوضع السياسي العام في القرن المنصرم، فكانت الحروب في فلسطين السبب الرئيسي للبطء في عمل أربع منها. وبعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1978، دمر سيل شتائي جارف آخر مطحنة كانت تعمل بكامل قوتها، وتوقف حجرها بعدما دار 150 سنة.
بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000، قررت بلدية شبعا إعادة الحياة إلى تلك المطاحن المبنيّة من الحجر الصّلد. تشجيعاً من البلديّة للسياحة، وإسهاماً منها في رفد الحياة اليومية للمزارعين المرتبطين بالبلدة في مختلف فصولها، أوْلَت المطاحن اهتماماً ملحوظاً. ويلفت رئيس بلدية شبعا عمر الزهيري إلى أنّه «بناءً على المعطيات التراثية والأثرية، ولكثرة الموارد الطبيعية في البلدة، طُرحت فكرة ترميم المطاحن من ضمن مشروع سياحي اقتصادي. عرضنا المشروع على مؤسسة «مرسي كور» التابعة لوكالة التنمية الأميركية، وهي مؤسسة نفّذت العديد من مشاريع الترميم التراثية بين منطقتي مرجعيون وحاصبيا، فأبدت استعداداً لإعادة المطاحن إلى طابعها البدائي القديم. اخترنا مطحنتين تتوافر فيهما المواصفات التراثية، ثمّ استأجرناهما لمدة عشر سنوات، بعد التنسيق مع ورثتهما. ستتولى البلدية وبعض المؤسسات والجمعيات الأهلية الإشراف على تشغيل المطحنتين واستثمارهما سياحياً، ثمّ تعود المطحنتان إلى أصحابهما بعد عشر سنوات، بحسب العقد المبرم، مع حرية تشغيلهما واستثمارهما شرط المحافظة عليهما وعدم المسّ بهيكليتهما البنائية».
لقد أعادت المطاحن المشهد أيام زمان إلى شبعا. فعلى مرّ الفصول، يحمل الأهالي أكياس القمح إلى الطاحونة، فيضرسونه تحت الأحجار القديمة ويأخذون حصصهم من الطحين الذي يرفضون تخزينه. «فطعم الطحين المخزن يختلف عن طعم الطحين الطازج، والمطحنة موجودة والحجر دوّار».
أحاديث الذكريات عن المطاحن وما كان يدور حولها، لا تنتهي في شبعا، وخصوصاً على لسان المسنين الذين عايشوا تلك المرحلة بتفاصيلها الدقيقة. حينها، كانت الدورة الاقتصادية في شبعا وحياة المنطقة الاجتماعية تدور حول المطاحن.
فعلى هامش رجد الحبوب وطحنها، كانت تتوالى الصفقات التجارية وحركة التبادل التجاري للقمح والشعير ومواسم الفاكهة والحبوب التي تشتهر بها شبعا بين لبنان والجولان وفلسطين. ويقول الزهيري «كانت المطاحن تمثّل مصدراً حياتياً وتجارياً للبلدة، إذ اعتمد الأهالي عليها في طحن حبوبهم، وخصوصاً القمح. ولأنّ البلدة تقع في مثلث استراتيجي بين لبنان وفلسطين وسوريا، كان التجار من كل حدب وصوب يأمّون المطاحن، لبيع الجوز واللوز والمشمش والدراق وكرز شبعا الشهير، إضافةً إلى الزيتون وحليب الماشية وألبانها». ويقول المسنون في شبعا إنّ تلك المرحلة «كانت عصر النهضة الذي عايشته بلدتهم، إذ كانت المطاحن مركز تواصل اجتماعي بين أهالي شبعا والقادمين إليها، وهذا ما أسهم في المصاهرة والزاوج».
ويتحدث أهالي القرية بحسرة عما فعله الاحتلال بمزارع شبعا أواسط السبعينات من القرن الماضي، وخصوصاً مع ما تلاه من اعتداءات تعرّضت لها البلدة، فضلاً عن حركة النزوح المتواصلة التي أدت إلى تراجع القاطنين في البلدة، إذ بقي فيها أقلّ من عشرة آلاف من أصل نحو أربعين ألف مواطن.
ويمكن مقاربة الحياة اليومية في شبعا اليوم انطلاقاً من حركة المطاحن. ففي الصيف، حين تزدهر البلدة مع عودة المغتربين تدور حجارة المطاحن بسرعة وتدبّ الحياة داخل جدرانها. وفي الخريف والشتاء، تعود حجارة المطاحن إلى الدوران ببطء شديد.
المشروع السياحي التراثي الذي أطلقته البلدية، كان الدافع لنشوء عدد من المتنزهات والاستراحات في محيط المطاحن، وإحياء سياحة جديدة تمتد إلى المعالم التراثية والطبيعية المنتشرة حول نبع الجوز وسنديانة شبعا المعمرة منذ 500 عام.
ودعماً للحركة السياحية حول المطحنتين وتشغيلهما، تولّت البلدية إقامة عدد من الجسور الإسمنتية والحديدية والخشبية تسهّل عبور المشاة فوق مجرى مياه نبع المغارة وروافده وتؤدي إلى المطاحن ونبع المغارة.