سلامة كيلة *الصراع هو نتاج التناقض، وليس من حل للتناقضات إلّا بحسمها. وحين يكون البلد محتلاً، لا تكون المسألة مسألة تنازع أو تعارض، بل تناقض، لأن التطور الحر لشعب ما، يفترض استقلاله. وليس من تطور دون الاستقلال. لهذا ليس من خيار لدى الشعب غير المقاومة، وهنا تبرز المقاومة بأشكالها المتعددة، من أجل تحقيق الاستقلال. واليسار الذي يحمل مشروع تطور وحداثة، معني ــ ربما أكثر من غيره ــ بتحقيق الاستقلال من أجل إطلاق التطور الحر الذي يفرض تحقيق التطور المجتمعي، الاقتصادي والاجتماعي والسياسي. لهذا سيكون، أو يجب أن يكون، في صلب النضال الوطني، وتكون المقاومة بمختلف أشكالها أسلوبه النضالي. وليس من يسار لا يفعل ذلك، لأنه حينها، يكون قد تكيّف مع الاحتلال، وقبل السيطرة، وتواطأ على مستقبل البلد.
لهذا، حين يثير قطاع من اليساريين السابقين مسألة المقاومة، يكون الطابع اليساري قد امّحى، وجرى التكيف مع القوى المسيطرة، التي هي الطُغَم الإمبريالية. ويكون الدور النضالي قد انتهى لمصلحة التنظير لقوى إمبريالية تحتل وتنهب، تدمر وتقتل.
المقاومة ليست افتعالاً، إنها في صلب ميل الشعب الذي يقع تحت الاحتلال. وهي ليست قراراً «شخصياً»، أو رغبة ذاتية بل توافق مع ميول واقعية. وانطلاقاً من ذلك، يمكن أن يتحول الحزب، أي حزب، إلى قوة أو يبقى في الهامش. ونتيجة لعدم فهم اليساريين السابقين ذلك، لم يُفهم السبب الذي جعل قوى الإسلام السياسي قوة، وجعلها تؤدّي هذا الدور. بمعنى أنه ليس مزاج «المثقف» هو الذي يحكم الواقع ويحدد مساراته، وطبيعة الصراع فيه، وأشكال هذا الصراع، بل إن الواقع هو الذي يجب أن يكون منطلق المثقف والحزب السياسي في تحديد كل ذلك، حيث إن الصراع هو النتيجة الطبيعية لوجود الاحتلال، والمقاومة هي شكل هذا الصراع.
ومن لا يفهم هذه البديهية، لن يكون جديراً بأداء دور سياسي، أو يكون معمِّماً لوعي مستلب، يروّج لمنطق القوى المسيطرة. ولا شك في أن رهط الليبراليين الذين سرعان ما انقلبوا على الاشتراكية حال سقوطها يفعلون ذلك. وهم تحت نير الاستلاب الذي يحكمهم، يروّجون لقبول الاحتلال والسيطرة، أو على الأقل يرفضون مقاومة الاحتلال والسيطرة. وهو الأمر الذي يجعلهم في تناقض مع الشعب، الذي لا يرون فيه سوى التخلف، ولا ينظر كثير منهم إليه إلّا بصفته رعاعاً. أو أحياناً بصفته سلبياً، لا يقوى على الفعل. وهذه المواقف القديمة / الجديدة هي التي سمحت للقوى الأصولية بأن تبدو أنها القوة المقاوِمة الوحيدة، وأن تصبح قوة شعبية، حيث إنها تطرح ما يعتقد به قطاع كبير من الشعب المحتل.
المشكلة التي كانت تحكم هؤلاء وهم في اليسار، وتحكمهم اليوم وهم ليبراليون، هي أنهم لا يرون الشعب، ولا ينطلقون من مشكلاته لأنهم لا يفهمونها. وبالتالي يؤسّسون على ما هو متوهّم في عقولهم، ما يعتقدونه دون معرفة كافية. الأمر الذي يشير إلى أنهم ينطلقون من المسألة التي يرفضونها، أي الإرادة.
إنّ إرادويتهم هي التي تجعلهم يفترضون أن المطلوب هو «النضال السلمي الديموقراطي»، والمفاوضات كخيار وحيد لحل «المشكلات العالمية»، دون أن يلمسوا أن الشعوب تعرف أن كل ذلك وهمٌ، وأن خيارها هو المقاومة والنضال، لأنه ليس من خيار آخر. فالتناقض الذي تعيشه، يفرض المقاومة وفق «حسها السليم». وهنا يجب أن يكون اليسار، المنظم لفعل يفرزه الواقع ولا يخترعه. هذه البديهية هي أسّ فشل اليسار في الماضي لأنه لم يفهمها، وظل يعتقد بأنه هو «صانع المعجزات»، ومحدد كل شيء. إذن، ليس ممكناً أن يكون في صفوف اليسار، إلّا الذين يعبّرون عن واقع شعوبهم، وبالتالي يناضلون في الصفوف الأولى من أجل الاستقلال والتحرر، ويخوضون غمار المقاومة.
* كاتب عربي