محمد بنعزيز *الوزير الأول (رئيس الوزراء): 69 سنة. وزير العدل: 73 سنة. وزير الدولة دون حقيبة: 74 سنة. قائد الدرك: 74 سنة. قائد قوات مكافحة الشغب: 70 سنة. مستشار الملك: 71 سنة. المدير العام لإدارة السجون: 72 سنة. زعيم حزب الحركة الشعبية: 84 سنة. قائد الشبيبة في حزب الاستقلال شابَ شعر رأسه كله. الصحافي الرسمي الأول في تلفزيون المملكة: 61 سنة ولن يتقاعد. زعماء النقابات المغربية في مواقعهم منذ وفاة حمورابي. مؤرخ المملكة: 88 سنة. رئيس مجلس المستشارين: 75 سنة... وقد مات هذان الأخيران أخيراً.
هذه عيّنة من النخبة المغربية العليا، وهي نخبة هرمة ومترهلة. فحين يتحدث الوزير الأول، يشعر المستمع إليه بأنه يتنفس بمشقة، وقد عقد أخيراً لقاءً مع نظيره الإسباني خوسي لويس ثاباتيرو، وكان الوزير الأول المغربي يخاطب الإسباني بخوسي ماريا أزنار! وزير العدل يتحرك بصعوبة، وينتظر منه إصلاح حزبه وإصلاح القضاء.
حجم بطن رئيس اتحاد كتّاب المغرب أضعاف حجم رأسه. زعيم نقابي قدّم شهادة طبية تثبت أنه خَرفٌ لينجو من المتابعة القضائية. آخر هزل حتى أصبح مثل المومياء، وما زال في موقعه القيادي منذ عهد ستالين. زعيم حزبي عتيق، ولد في عهد لينين، غارت عيناه في جمجمته وما زال يقترح نفسه للوزارة...
هذا وصف محرج ومؤلم، لكنه الحقيقة. إذ لا يمكن إنكار دور عامل العمر والاندفاع البدني في أداء مهمّات الشأن العام. فالهرم والترهل البدني يعرقلان قيام الشخص بأعباء منصبه، ولا سيما أنه ليس بين هؤلاء من أدّى دوراً تاريخياً رائداً يحفظ له شعلة الاتّقاد المصاحبة عادة للعظماء، ولا سيّما أيضاً وأيضاً أن تضخّم دور الفرد أو الزعيم في مجتمعاتنا غالباً ما يخفي نقصاً في دور المؤسسات، ولكنه من الجهة الأخرى يضاعف من التطلب حيال ذلك الفرد.
ولكن هذا الوضع التراجيكوميدي ناتج من احتكار المناصب المدرّة للدخل والنفوذ، لحماية الحصيلة وتحسين شروط مستقبل الذرية الميمونة. لذلك فديناصورات السياسة لا ينوون مغادرة مواقعهم إلا في اتجاه مقبرة الشهداء حيث يدفنون عادة، وهم حريصون على مناصبهم، يخشون المنافسة ويجتثّون أية شتلة قد تمثّل تهديداً لهم. لذا، لا صفَ ثانياً مدرباً على القيادة. وبالتالي فتجديد النخبة بطيء، ومن النادر العثور على شاب في موقع مسؤولية مهم إن لم يكن سليل عائلة كبيرة أو صهر مسؤول مُعمّر.
ولهذا التأبّد في المناصب، نتيجة كارثية وهي الراديكالية والفساد. فالشباب يزداد راديكالية للتعبير عن غضبه، سواء بالتشدّد أو بتناول المخدّرات أو بالهجرة السرية، حتى إن 77 في المئة من الأطر المغربية يحلمون بالهجرة. وفي الخمس سنوات الأخيرة، فكّك المغرب 30 شبكة إرهابية و180 شبكة للهجرة السرية.
أما فضائح الفساد، فهي لا تتوقف، فكل مسؤول يعمّر في منصبه يفترض أنه ضيعة خصوصية له، يفعل فيه ما يريد، وهذا نموذج من قضايا الفساد التي تداولتها الصحافة المغربية في السنوات الأخيرة: بلغت القروض الممنوحة وغير المستحقة التي منحها القرض العقاري والسياحي أكثر من ملياري دولار. وأخيراً اشترى مدير هذا البنك لنفسه شقة في ملكية البنك بربع ثمنها في السوق.
تحدّث المدير السابق للصندوق الوطني للضمان الاجتماعي عن «ضياع» 378 مليون دولار، وحقّق البرلمان في الأمر ودفنت النتائج. لم تسترجع الأموال المنهوبة من القرض الفلاحي. جرى تبديد أكثر من مليوني دولار في الصفقة التي اتّهم فيها النقابي الخرف. حكم على مدير جمعية المطاحن بتهمة تحويل أموال، لم ينفّذ الحكم ولم تسترجع الأموال.
اختلس المدير الأسبق لشركة الخطوط الملكية المغربية مليون دولار فطلب منه إرجاعها. حين تسلّم مدير المركز السينمائي منصبه سنة 1987، لم تكن لديه أي قاعة سينمائية. وحين غادر المنصب عام 2003 كان يملك خمس عشرة قاعة وشركتي إنتاج وتوزيع.
في عام 2000، كان لدى وزارة المالية 3190 ملفاً خاصاً بالمراقبة والتفتيش والاختلاسات، لكن نتائج التفتيش غير معروفة. أضيف أيضاً تقرير المفتشية العامة للمالية عن الاختلالات المالية في التعاضدية العامة لموظفي الإدارات العمومية في 2002.
اعترف وزير الصيد بأن 70% من الإنتاج الوطني من السمك يباع بطرق غير قانونية. التهريب ينخر الاقتصاد المغربي، الغريب أن تقوم المصالح المختصة بحجز السلع المهرّبة في مراكش، وسط البلد، ولا أحد يتساءل لِمَ لمْ تحجز على الحدود؟
في صيف 2008، تناولت الصحف فضيحة بيع 7000 هكتار من الأراضي العامة بدعوى تشجيع الاستثمار، دون الخضوع لقانون الصفقات العمومية، وقد بيعت الأراضي بـ20 دولاراً للمتر المربع في مواقع يبلغ فيها ثمن المتر 1200 دولار... صفّى وزير المالية السابق قطعة أرض في الحي الدبلوماسي في العاصمة، لابن زميله في الحزب والحكومة. مسؤولون يضيئون فيلّاتهم وفنادقهم في مراكش بسرقة الكهرباء العمومية. تجري هذه الأيام اعتقالات وتسريحات لضباط كبار في الأمن بسبب تورطهم في تهريب المخدرات من شمال المغرب إلى أوروبا.
أما حالات الإفلات من العقاب، فلا حصر لها. وهناك حالات اعتداء جسدي على المعترضين، أطرفها قيام ابنة زعيم الطبقة العمالية العتيق بدهس عمال شركتها بسيارتها الجاغوار، لأن العمال اعتصموا للمطالبة بدفع أجورهم المتأخرة...
نتيجة لهذا الفساد، يحتل المغرب مرتبة متأخرة في الشفافية، ويعيش سكانه على فوارق طبقية فلكية، ويندهش الملاحظ من أثرياء لا يبرّر مستوى ذكائهم ومهاراتهم حجم الثروات التي يملكونها، وهناك وزراء لا يمنحون الجمهور انطباعاً بأنهم رجال دولة، يشعر الناظر إليهم بأنهم لا يدركون أعباء مناصبهم: وزير الاتصال يبرر محاكمة الصحف، زعيم حزب الوزير يقول إنّ قرار المحاكمات لم يصدر عن الوزير، أي إنه بريء وغير مطّلع على أمر من اختصاص وزارته.
هذه عيّنة من ممارسات نخبة اليوم، وهي هرمة، مترهلة وفاسدة، ومع ذلك لا تزعجها أية نخبة مضادة، وهي امتداد لنخبة المغرب منذ 40 سنة، التي خصّص لها الباحث الأميركي جون واتربوري كتاباً لامعاً بعنوان «أمير المؤمنين: الملكية والنخبة السياسية المغربية»، خلص فيه إلى أن تلك النخبة تعيسة وعاجزة وتعترف بقابليتها للارتشاء، وتتجنب التحالف مع ذوي الجرأة، وتحديد مواقفها يجري وفق الولاء الشخصي، ولا يتلاءم سلوكها مع المبادئ التي تتبنّاها...
ورغم ذلك، تشتكي هذه النخبة من الشعبوية، ما يعادل عندها معاداة النخبة! وقد كثرت الجرائد التي تنشر أخبار هؤلاء بعنف وسخرية، والأمثلة كثيرة، أحدثها نموذج قدمه قياديان نقابيان انخرطا في ردح علني منحطّ. وتلقى هذه الجرائد رواجاً بين القراء، مما يزيد من وقع سخريتها وتأثيرها.
غير أنّ أعضاء النخبة يعتبرون هذه الجرائد مجرد موجة ستنحسر. ويُدعم هذا الانتظار بإصدار مجلات ثقيلة تظهر صورها سعادة النخبة بما لديها، وهي نخبة تتوهم أنها قادرة على التحدي، وقد أنفقت عشرات ملايين الدولارات في حملة للحصول على شرف تنظيم المعرض الدولي في طنجة، وحملتين لتنظيم كأس العالم، وقد كانت الآمال وهاجة. حينها كتب الشبان على الجدران بثقة «المغرب 2010»، وعندما حظيت جنوب أفريقيا بشرف تنظيم المونديال، أضاف أحد الشبان صفراً إلى الرقم فأصبح الشعار هو «المغرب 20100».
* صحافي مغربي