زيارة ساحل العاج فرصة للتعرف على بعض جوانب الحياة الأفريقية، ولكنها أيضاً فرصة للاستمتاع بجمال الطبيعة في هذه البلاد، والتنبّه إلى لذة العيش بحرية، هناك قد ينسى الناس مشاغلهم ويرقصون في الطرق على وقع أغنية «غاوو الأول»

جلنار واكيم
كانت الدعوة مميزة، دعوة لحضور حفل زفاف صديقتي هدى غندور في أبيدجان، فكيف أرفضها، دون تردد حزمت الحقائب، سأطلق الزغاريد مع المحتفلين وأستمتع بزيارة بلد أفريقي، ساحل العاج الذي سمعت عنه كثيراً. كنا أكثر من أربعين شخصاً ركبوا الطائرة سوية. الوجهة ساحل العاج والهدف زفاف صديقينا هدى وسامر.
سرعان ما تحولت الطائرة إلى باص. الراكبون لا يعرف بعضهم بعضاً. بعضهم أقارب بيت الغندور، أو ما نسميهم بلبنانيي أفريقيا. وآخرون أصدقاء للعروسين لا يعرف بعضهم بعضاً، ولكن لم تكد تنتهي الرحلة حتى أصبح الجميع أقارب... وانخلط الحابل بالنابل.
وصلنا إلى ساحل العاج بعد عشر ساعات من الطيران. في المطار استقبلنا كما يُستقبل وفد دبلوماسي. قال أحد الضباط «إنه وفد عائلة الغاندو» (الغندور)، ثم أضاف مبتسماً: «أهلاً بكم في ساحل العاج».

حكايا مغتربين

قصة عائلة الغندور إحدى قصص اللبنانيين الذين غادروا بلادهم بحثاً عن فرصة عمل أفضل. وسرعان ما أسسوا امبراطورية امتدت من لبنان إلى أفريقيا.
تقع ساحل العاج على طول خليج غينيا، ويقطن فيها العديد من القبائل مثل الأدوكو والأبري والآبي والنزيا. استقلّت البلاد عن المستعمرين الفرنسيين عام 1960، وتحوّلت إلى قوة اقتصادية وسياسية تنافس جيرانها، وخاصة السنغال.
ساحل العاج بلد أفريقي بامتياز، أو ما نسميه أفريقيا العميقة. هنا تكثر الأساطير عن القبائل والفيلة والأسود والغابات. ووسط الحضارة والبيئة الأفريقيتين، وجد اللبنانيون مكاناً لهم، واستقرت عائلات جنوبية وشمالية منذ أكثر من خمسين عاماً. الجالية اللبنانية هي الجالية الوحيدة التي سمح لها العاجيون في البقاء في بلادهم عام 2000، كان ذلك يوم حدث تمرد من جانب السكان الأصليين احتجاجاً على هجوم عسكري نفذه فرنسيون ضد قرية في ساحل العاج.



بقي اللبنانيون في بلدهم الثاني، رافعين الأعلام اللبنانية على سياراتهم والمحال والمصانع، وذلك لتفادي أعمال العنف. وفي كنف بيت الغندور، إحدى أعرق العائلات اللبنانية العاجية، قضينا أسبوعاً ملوكياً.
من المطار استقللنا الباص، وتوجهنا مباشرة إلى مدينة أسيني على بعد 120 كيلومتراً من العاصمة أبيدجان، وهي عبارة عن شبه جزيرة تمتد على طول المحيط الأطلسي. كانت أسيني، لفترة طويلة، مركزاً سياحياً أساسياً، يقصده السياح من كل أنحاء العالم، كما كانت الممر التجاري الأهم خلال فترة الاستعمار في القرن التاسع عشر.

إنها الطبيعة

أسيني أشبه بحلم، غاباتها من أجمل ما يمكن مشاهدته، الطبيعة فيها أشبه بصور البطاقات البريدية. أشجار جوز الهند والمنغا والبابايا والموز في كل مكان. هنا أكرمت الطبيعة على الإنسان، دون أن تتطلب مجهوداً منه.
لا حاجة لرعاية الأشجار. هي ترعى نفسها بنفسها. أهذه الطبيعة الكريمة هي من جعلت الأفارقة مكتفين بنظرهم وخمولين بنظرنا؟ يرد محمود غندور صاحب الدعوة «ربما»، ثم يروي لنا يوم غفا أحد حراس المنتجعات السياحية خلال ساعات العمل، فقال له محمود غندور: «ألا تخشى أن تطرد من عملك؟» أجابه قائلاً: «لماذا أخاف. بإمكاني أن أصطاد السمك في البحر، وأن أشرب جوز الهند وأن آكل المنغا والبابايا. وأنام تحت الشجرة. فليطردوني من عملي».



هذه هي إحدى الروايات التي تلخص تركيبة الأفارقة، فهؤلاء تربطهم بالطبيعة علاقة متينة، أما البحر فهو ملاذ لهم، شاطئ أسيني جميل جداً لكن الغوص في مياهه خطير، وحدهم أبناء البلد يواجهونه ويخوضون غمار البحر الملاصق للمدينة.
في أسيني مكثنا جميعاً في مجموعة من الـ«بنغالو». هناك، عشنا حياة «أفريقية» بامتياز، من مأكل ومشرب ورقص.
كنا ننتظر بعضنا في الصباح ثم نتوجه إلى البحر ونأكل الموز المقلي وفاكهة لم أرها من قبل. أشجار جوز الهند في كل مكان، ويقول أبناء البلاد إن لهذه الفاكهة عيوناً وإنها لن تؤذي أحداً. ثم كانت لنا وقفة في قلب أسيني، قرية يعيش فيها أبناء البلاد بالطبع، بيوت خشبية تجمعت وسط الأشجار التي تلفها. تقع هذه القرية وسط إحدى الغابات، على مقربة من نادي «الكلوب ميد» الذي أُنشئ حين كان السكان يستفيدون من السياحة في المنطقة. ثم فرغ النادي بسبب تردي الأوضاع السياسية وبقيت القرية صامدة.

في العاصمة

من أسيني انتقلنا إلى أبيدجان، وهي تُعدّ العاصمة التجارية لساحل العاج. هناك زرنا العديد من الأسواق التقليدية، منها سوق القماش والأغراض التقليدية وسوق الخشبيات، وبالطبع سوق الخضار والفاكهة. في تنقلاتنا لفتنا مشهد النساء يحملن أولادهن وراء ظهورهن، ويرفعن على رأسهن إناءً مليئاً بالخضار والفاكهة التي يعملن على بيعها في السوق.
مشاهدة الأفارقة وهم يرقصون أمر رائع. على وقع موسيقى أغنية «غاوو الأول» يدخلون في حالة من الهذيان، فلا يمكنهم إلا أن يرقصوا، وقد ينسون إلى أين كانوا ذاهبين بمجرد أن يسمعوا هذه الأغنية.


في حفلة الزفاف

... وأخيراً، جاء موعد العرس. تحضّر الجميع، لبنانيين وعاجيين، لاحتفال كتب الكتاب. كانت الأجواء رائعة بحق. فقد تسنّى للجميع أن يصبحوا أصدقاء قبل حلول موعد الزفاف. وكان كل المدعوين قد تحولوا إلى عائلة كبيرة... على أنغام الدبكة من جهة و«غاوو الأول» من جهة أخرى رقص اللبنانيون وأبناء ساحل العاج جنباً إلى جنب. أخذتهم الفرحة والأنغام بعيداً عن كل الكليشيهات العنصرية التي يتحدث بها من لا يعرف ساحل العاج