لا يحتاج المعلّم موسى إلى أي نوع من الاستدراج لتسمعه يقول: «الحلّاقون الجدد بهدلولنا المهنة». لكن موسى، الحلاق الكلاسيكي كما يعرّف عن نفسه، لا يخشى المنافسة بعدما تفنّن في قصّ شعر ثلاثة رؤساء: كامل الأسعد، حسين الحسيني ونبيه بري
مهى زراقط
كان موسى مروة في الخامسة عشرة من عمره عندما غادر بلدته الجنوبية حداثا وانتقل للإقامة في منزل صهره في بيروت. الأخير كان يعمل حلاقاً في أحد صالونات العاصمة، والذي كانت تقصده أبرز شخصيات البلد، يذكر منها مروة وجوهاً سياسية مثل «كامل الأسعد، بيار الجميّل وسامي الخطيب»، إضافة إلى عدد كبير من المحامين والأطباء والمهندسين.
لا ينسى موسى هذه المرحلة التي أحدثت صدمة له. هو الفتى الوافد من قرية تفتقر إلى أبسط مقوّمات الحياة، إلى بيروت، المدينة التي تعجّ بالحياة، وتحديداً إلى صالون «الناس المهمّين» كما قيل له في بداية عمله. يتذكر أن «أوّل شخص مهم رأيته يدخل الصالون، كان كامل الأسعد، رئيس المجلس النيابي آنذاك». ككلّ جنوبي، كان موسى يسمع الكثير عن «البيك»، لكنه لم يكن يراه إلا على شاشة التلفزيون الوحيد الموجود لدى جدّه في القرية. يقول: «كان كامل الأسعد يفوت رافع راسو لفوق، ومعو مرافقين. أذكر أنه كان صديقاً لصاحب الصالون وهو من عمل له الشهرة».
الصالون الكائن في مبنى ستاركو آنذاك، كان يستقبل أيضاً أمراءً وفنانين عرباً، منهم الأمير القطري عبد الله بن حمد الذي عرض على قريب موسى السفر للعمل في قطر. الأخير اصطحب موسى معه. كان ذلك مطلع عام 1976، لبنان على فوهة بركان، وموسى عرف معنى النجاة من الموت بعدما هرّبته ثلاث فتيات مسيحيات، كنّ يعملن معه في الصالون، وزملاءه المسلمين عبر الحواجز المسيحية، خلال أحداث السبت الأسود عام 1975.
في قطر، أقام موسى ستة أشهر في «فندق الخليج»، الذي كان أحد أبرز فنادق الإمارة، وتُعقد فيه المؤتمرات السياسية والاقتصادية، ما أتاح له التعرّف إلى الأمراء ورجال الأعمال الذين كانوا من زبائنه في الصالون الخاص الذي فتحه وقريبه في الدوحة. لكنّ إقامة مروة لم تطل هناك، فقد حصل الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1978 وتبلّغ موسى خبر استشهاد أشقائه، عندها قرر العودة «مؤقتاً» كما كان يظن. في لبنان، تبيّن له أنّ أشقاءه كانوا مفقودين ولم يموتوا، لكنّ موسى لم يعد إلى قطر. «عُرض عليّ العمل في صالون جديد في منطقة كراكاس براتب جيّد، ففضلت البقاء».
في وقت قياسي، استعاد الصالون الجديد عدداً كبيراً من الزبائن القدامى، أبرزهم الرؤساء كامل الأسعد، حسين الحسيني، نبيه بري الذي كان محامياً في حينه. يذكر موسى أنه تعرّف إلى بري في منزل جيرانه «ووكلته بقضية»، كما لعب معه «الطرنيب» قبل أن يصبح رئيساً لـ«حركة أمل». بعدها، صار بري يستدعي موسى إلى منزله الكائن في بربور، لأن حركته صارت محدودة بفعل أحداث الحرب الأهلية. في الوقت نفسه، كان موسى يزور الحسيني أيضاً في منزله المقابل لقصر الرئاسة الثانية في عين التينة.
لا يحكي موسى كثيراً عن الرجلين، نافياً بذلك الصورة النموذجية للحلاق الثرثار. لكنه يؤكد أن العلاقة بينهما كانت جيدة «وكذلك كانت علاقتهما مع الأسعد. الخلافات السياسية لم تكن تؤثر على العلاقات الاجتماعية» يقول. وعن الفوارق بين الرؤساء الثلاثة، يقول إن الحسيني وبري كانا يتركان له حرية تسريح الشعر كما يراه مناسباً، فيما كان الأسعد متطلّباً، سواء في تسريحة شعره أو حلاقة ذقنه. ولدى الإصرار على سماع المزيد من التفاصيل، يكتفي بالقول إن الحسيني «كان مسالماً جداً، ولم يخلق للعمل السياسي خلال الحرب». أما «الأستاذ نبيه»، كما يسمّيه، فقد «كان صاحب ذاكرة رهيبة، يكثر من إلقاء النكات والتعليقات. لم أزره منذ زمن، لكني أعتقد أنه سيتذكرني إذا قرأ هذا المقال».
السبب المباشر الذي دفع موسى إلى التوقف عن زيارة السياسيين في بيوتهم هو وقت الانتظار الطويل الذي كان يمضيه في انتظار انتهاء زبائنه من استقبال ضيوفهم. «كان عليّ أن أختار بين الصالون وحمل شنطة والتنقل بينهم». مع احتدام الحرب، أضيفت أسباب أخرى أبرزها تعرّض مبنى الصالون للقصف. هكذا وجد موسى نفسه مجدداً على متن طائرة حملته مرة إلى البحرين، وثانية إلى الكويت، وثالثة إلى الأردن ثم أفريقيا، قبل أن يستقرّ منذ خمس سنوات فقط في صالون صغير فتحه في محيط الحمام العسكري في بيروت.
هنا، يوجد ثلاثة مقاعد فقط، بخلاف الصالونات الكبيرة التي عمل فيها. وهنا، لا سياسيين بين الزبائن، «وهذا أفضل»، يجزم، وخصوصاً في ظل الانقسام السياسي الحاد. «إذا زارني سياسي من فريق ما، قد يقاطعني زبائني الذين يناصرون الفريق الآخر»، يقول.
ليس هذا التغيير الوحيد الذي يُشعر موسى بغربة عن مهنته التي كانت قلة تمارسها، وباتت اليوم «عمل من لا عمل له». يفتقد حلاقة الذقن اليومية، التي كانت تدفعه وزملاءه إلى فتح أبوابهم عند الساعة السابعة صباحاً: «أما اليوم، فصار كلّ الرجال يحلقون ذقونهم في بيوتهم خوفاً من الأمراض». ويؤرّخ موسى انقطاع الرجال اللبنانيين عن عادة حلاقة الذقن «تحديداً عام 1995، مع انتشار الحديث عن مرض السيدا وطرق انتقاله».
كذلك يتحسّر على أيام زمان، يوم كان للحلاق «برستيجه» الخاص، أما اليوم فقد «بهدلولنا المهنة»، يقول عن الحلاقين الجدد، واصفاً إياهم بعبارة «شهرة وعجيبة»: أي إن الزبون يخرج عجيبة من بين أيديهم فيصنع لهم شهرة سيّئة. يقارن بينهم وبين جيله: «نحن مصلحتنا بعدا ع الكلاسيك. هم يقصون على المكنات، ينزعون الشعر فيلجأون إلى الجل ليخبّئوا ما اقترفوه. أما نحن فنعمل على أساس أن يستحم الزبون ويبقى شعره مرتباً».
لذلك تقتصر الفئة التي يتعامل معها موسى على الثلاثينيين وما فوق، لكنه لا ينفي أنه حاول استقطاب الشباب: «فلم أشعر بارتياح، أوّلاً سبّبوا لي ازدحاماً في الصالون، وثانياً لم أشعر بأنه من المناسب أن يدخل أحد زبائني فيجدني أقصّ شعر أحدهم سبايكي أو ألوّن شعر آخر وقد قصّه قصيراً من جهة وتركه طويلاً من الجهة الثانية».
هذا الحرص على الزبائن هو الذي يدفع موسى إلى التكتّم على الكثير من أسرار الرجال الجمالية التي نسأله عنها. يكتفي بالقول في هذا المجال: «90% أو 95% من الرجال يحرصون على قص شعورهم كما تحبّ نساؤهم. أحياناً كثيرة تتصل بي النسوة ويطلبن مني أن أحافظ على طول معيّن لشعور رجالهنّ».


عبد الحليم حافظ

في كلّ مرة كان يزور فيها المطرب الراحل عبد الحليم حافظ بيروت، كان يحلّ زبوناً على صالون الحلاقة. وقد كان عبد الحليم الوحيد الذي تنبّه إلى وجود لغة خاصة يتواصل بها الحلاقون لكي لا يفهمهم الزبائن. يقول موسى: «إذا رغبنا مثلاً في تأخير زبون في انتظار المعلّم، كنا نقول «رأخو وشي» بدل «أخرو شوي»، فانتبه عبد الحليم وصار يتحدّث معنا بلغتنا.