وائل عبد الفتاحعمرو موسى مسكين. يبحث عن عنوان شركة علاقات عامة لإعادة رسم صورته من جديد. اعترافاته الأسبوع المقبل تقول إنّه حائر. مرتبك. ليس صحيحاً أنّه منحاز إلى معسكر المعتدلين. وليس صحيحاً أيضاً أنه تابعٌ لأوامر القاهرة والرياض. إنّه في مأزق المتحدّث باسم الموتى. يبدو من تصريحاته حزيناً على «السفينة الغارقة»، لكنّ وظيفته تجبره على ارتداء الملابس المتأنّقة والاستمرار في «التكفين». هو من سلالة تنقرض. تربّى في مدرسة دبلوماسيّة كبيرة وموهوبة في الجمع بين المواقف الصلبة ومرونة قادرة على إحراز مكاسب وأهداف. لم يبقَ من مواهب هذه السلالة إلا الحنجرة.
وهذا ما جعل عمرو موسى يبدو «ظاهرة صوتيّة» أكثر من أي شيء آخر. لاعب ماهر، لكنه موديل قديم. يلعب كثيراً على جاذبيّته السياسيّة، لكنّها جاذبيّة قادته إلى مصير موظّف لا يريد إغضاب أصحاب العمل. مصير تعس بالتأكيد وضدّ طموحات عمرو موسى الشخصية. لكنّ هذا خياره الوحيد الذي يجعل أوساطاً سياسيّة وشعبيّة تسأل: متى يستقيل...؟
الاستقالة قد تعني قنبلة في وجه نظام عربي انتهى وذاب وما زال جسده الميت جاثماً يعوي ويغرز أظفاره في روح تصنعها المقاومة.
وفي تاريخ الدبلوماسية وزراء خارجيّة أخلصوا لمهنتهم واستطاعوا أن يقدّموا موقفاً كبيراً فضح الكثير من الخبايا والأسرار. إسماعيل فهمي وإبراهيم كامل لم يكن أيٌّ منهما نجماً سياسياً ولا كانا من أحزاب المعارضة، لكنّ كلّاً منهما كان شاهداً على خطايا في اتفاقيات السلام مع إسرائيل... فاستقال حفاظاً على كرامته وتاريخه، ووفاءً لمهنته في لحظة كان الخيار فيها صعباً بين المهنة وخدمة الرئيس المندفع في مغامرة الصلح مع إسرائيل. الدكتور بطرس غالي هو الآخر، أثناء تولّيه الأمانة العامة للأمم المتحدة، ورغم أنه يعرف أن التجديد له لا بد أن يمرّ عبر واشنطن، لم يجد مبرّراً لتفويت جريمة قانا التي قتلت إسرائيل فيها الأطفال وموظّفي الأمم المتحدة، كذلك فإنه أصرّ على فتح ملفّات إبادة المسلمين في صربيا... رغم أن كل مصالح منصبه في يد دول ليست مسلمة. لكنّ عمرو موسى النجم الشعبي والسوبرمان من وجهة نظر شعبان عبد الرحيم، هو في الحقيقة موظف حائر. حنجرته لم تعد ملك هواه. ولا كاريزماه لها مسرح وسط الحسابات المعقّدة في حروب الديناصورات العربية.
ديناصورات مهزومة تتصارع على سمكة ميتة. يتشابه الحكّام من الأمير إلى الجنرال. ومن الملك إلى الرئيس. من طويل العمر إلى وريث أبيه. كلّهم تركوا إسرائيل وتعاركوا على من البطل ومن الجاسوس. ومِن خلفهم جيوش موظّفين لم يعد أمامهم خيار. عليهم جميعاً أن يردّدوا النشيد نفسه ويقدّموا الخدمات نفسها.
شعبية عمرو موسى بنْت رفاهية القبول بالخروج البسيط عن النص. الآن ليس هناك إلا ديباجات ممزقة، وبلاغة مستعارة من أزمنة متباينة. حماسة من زمن عبد الناصر وجيوش الزحف القومي التي ستغيّر العالم، وربّما قبل ذلك من زمن فتوحات الخلفاء... وحكمة من زمن السادات... وشتائم من كل الأزمنة.
يحاول عمرو موسى أن يبدو مختلفاً عن جيوش الموظّفين عند الأنظمة. لكنّه اختلاف صعب. دفعه إلى احتراف المراثي مرّة (خطاباته عن السفينة الغارقة وبكائيّاته عن التشتّت في افتتاح مؤتمر وزراء الخارجية حول الحرب الأخيرة على غزّة)... وفي مرّات أخرى، حاول عمرو موسى أن يستخدم أسلوب «النقد الخفيف» لمعسكر الحكماء (قال في حوار «الجزيرة» إن قطر كانت محقّة في الدعوة إلى مؤتمر الدوحة). اعتراف متأخّر، وموضوعيّة مؤجّلة، لكنّها تصلح لـ«تاتش» مقاومة لا يضرّ الموظف الحائر.
عمرو موسى صيد سهل في حروب التخوين. لكنّه صيد كسول. يبعد النظر عن حقائق مذهلة، وهي أن العروبة لم تبنِ دولاً كبيرة، ولم تصبح حتّى رابطة مصالح كما حدث في الاتحاد الأوروبي.
العالم العربي الآن محمية طبيعية لديناصورات منقرضة من الحكام. الأنظمة فقدت هيمنتها على الشعوب الهائجة عاطفياً. وهذه تصنع دائرة لا تنتهي من الأزمات المزمنة. احتقان دائم. وحلقة مفرغة من غضب وقمع. غضب بدون مشروع وقمع بدون هيمنة.
وهناك مناوشات لكسر الدائرة... ومرجعيات من خارج العالم العربي. تركيا دخلت على الخط لكي لا تترك إيران وحيدة. وأردوغان ينافس نجاد (كلاهما منتخب ديموقراطياً ولديه خطاب قوّته). كلّها مناوشات وربّما مشاريع أحلاف... مرجعيات تعيد تعريف العرب لصورتهم على أساس طائفي هذه المرة: سنّة وشيعة.
هذه حقائق أكبر بالتأكيد من تعليق عمرو موسى على مذبح الخيانة والمقاومة أو جعله شاهداً على قبر الجامعة العربية...
اللعب كله الآن على فكرة الشظايا. حماس تنقسم بين الداخل والخارج. ومنظمة التحرير بين الميثاق والهيكل. عرب القاهرة وعرب الدوحة. شظايا ستُخرج زعماء مجهولين يقودون المرحلة القادمة. يصعدون على الجثث ويخرجون من حرب الشرعية بين أنظمة جاثمة وتنظيمات محظورة. حرب تحاول فيها الكهولة التهام الشباب. حرب أكبر بكثير من استعراضات السوبرمان عمرو موسى.