في أواخر عام 2008، زار لبنان وفد فرنسي لتقصي واقع مراكز CNAM في المناطق. المفاجأة كانت كبيرة لجهة غياب الشروط. أما التوصية، فهي حجب الشهادات الفرنسية وتكليف مجلس الإدارة إيجاد مخرج «لبناني» لمستقبل المراكز!
فاتن الحاج
وُلد الكونسرفتوار الوطني للفنون والمهن (CNAM ـ باريس) بعد 5 سنوات من قيام الثورة الفرنسية لتأهيل الكوادر الذين يعملون في محيط صناعي ومهني، وإعطاء الطلاب الذين اضطروا إلى دخول سوق العمل فرصة إكمال دراستهم الأكاديمية. هذه هي فلسفة شبكة CNAM المنتشرة في 50 مدينة فرنسية و6 مستعمرات وجزر فرنسية، إضافةً إلى مركزي إسبانيا ولبنان. أما CNAM ـــ لبنان أو ما اصطُلح على تسميته معهد العلوم التطبيقية والاقتصادية فأنشئ عام 1970 كمؤسسة يديرها مجلس إدارة تتمثّل فيه الجامعة اللبنانية، (CNAM ـــ باريس) والجمعية اللبنانية للتعليم العلمي والتقني والاقتصادي التي يرأسها النائب وليد جنبلاط. وقد استطاع المعهد طوال ثلاثة عقود المحافظة على مستوى الشهادة التي تشترط للحصول عليها الخضوع لثلاث سنوات من الخبرة المهنية.
لكن قرار التفريع «السياسي» كما تسميه الأوساط الطلابية خرق في رأيها فلسفة (CNAM ـــ باريس) وخصوصاً أنّ المراكز في المناطق تفتقر إلى المستلزمات الضرورية للتعليم الجامعي (مبنى، مختبرات، مكتبة...إلخ). كما ترى الأوساط أنه لا مبرر للمركز إذا لم يتوافر له المحيط الصناعي والمهني. وإذا كان الطلاب يُقرّون بأنّ أزمة المراكز فتحت باب النقاش بشأن تلبية حاجات المناطق للتعليم الجامعي، فإنّ ذلك ليس مهمة معهد العلوم التطبيقية الذي يواكب التنمية ولا يصنعها، كما قالوا. ثم إنّ هناك معايير أكاديمية موحّدة تفترض وضع دراسات علمية لواقع المناطق المعنية قبل الحديث عن أي فرع أو اختصاص، وهذا ما لم يحصل، على حد تعبير هذه الأوساط.
ومع ذلك فالمراكز أنشئت بعقود تعاون بين الجامعة اللبنانية و(CNAM ـــ باريس) ممثلاً برئيسته آنذاك لورانس باي جونني والجمعية اللبنانية للتعليم العلمي والتقني والاقتصادي، لكن، يبدو أنّه عندما وصل الأمر إلى إعطاء الشهادات غلّب الفرنسيون الخيار الأكاديمي المتمثل بالحفاظ على الشروط والآليات المؤسساتية لعمل ( CNAM ـــ باريس) على الموقف السياسي السابق الذي ينطلق من فكرة تعزيز الحضور الفرنكوفوني. من هنا كانت زيارة وفد (CNAM ـــ باريس) في أواخر عام 2008، إلى لبنان لتقصّي الحقائق. وتتحدث الأوساط الطالبية «عن صدمة أعضاء الوفد بالواقع السيّئ للمراكز، إذ لا تتجاوز نسبة الطلاب الذين يعملون 15%، ما جعل الفرنسيين يرفضون إعطاء شهادات فرنسية لطلاب المراكز، والاكتفاء بالحديث عن إيجاد حل (تسعة أشهر Stage) للطلاب الذين تسجلوا قبل عام 2007. وفي المقابل، كلّف الوفد مجلس الإدارة اللبناني إيجاد مخرج «لبناني» لمستقبل المراكز.
أما اللجنة الطالبية في المعهد (تضم الموالين والمعارضين) التي رفعت الصوت عالياً في أيار 2007 في وجه إنشاء الفروع بطريقة عشوائية ومتسرعة، فتؤكد اليوم أنّها ترفض حلولاً «عوجاء» تنعكس سلباً على سمعة المعهد الأكاديمية، وخصوصاً مستوى شهادة الهندسة فيه التي أثبتت جدارة حامليها في سوق العمل. وفيما تحمّل اللجنة مجلس إدارة المعهد مسؤولية المشكلة الحالية، تطالبه بإيجاد حل «غير سياسي» و«غير انتخابي» لأزمة الشهادة في المراكز. وترى اللجنة أنّ رهان البعض على ضغوط سياسية تجبر المعنيين في (CNAM ـــ باريس) على العودة عن قرارهم، تحت ذريعة أن الفرنسيين لن يتخلوا عن مراكز جامعية فرنكوفونية هو أشبه بالوهم، لأنّ مؤسسة CNAM في فرنسا تعدّ من أعمدة التعليم العالي، وبالتالي هناك آليات مؤسساتية وشهادة دولة (Diplôme d’état) لا تخضع لزواريب السياسة والمصالح الانتخابية.
لكن ماذا عن الطرح الذي يتبنّاه عضو مجلس الإدارة الدكتور وليد صافي وهو فكرة إعطاء شهادة «إجازة» (Licence) لبنانية من الجامعة اللبنانية ـــ معهد العلوم التطبيقية للطلاب الذين لا تتوافر لديهم شروط الخبرة المهنية لنيل شهادة CNAM الفرنسية؟
هو طرح سينعكس سلباً على المعهد، تقول الأوساط الطالبية، وسيخلق ارتباكاً لدى الطلاب مع وجود شهادتين بمنهجين مختلفين، إضافةً إلى أنه لا مبرر لمثل تلك الإجازة في اختصاصات (كإدارة الأعمال أو المعلوماتية أو الإلكترونيك...إلخ) موجودة في فروع كليات الجامعة اللبنانية (ككليّة العلوم أو إدارة الأعمال...إلخ)، ثم إنّ الكلفة الوسطية للأقساط في المعهد تبلغ أكثر من مليون ومئتي ألف ليرة لبنانية في العام، بينما رسم التسجيل في الجامعة اللبنانية هو 250 ألف ليرة فقط، إلّا أنّ صافي يوضح أنّ ميزة هذه الإجازة أنّها ستتضمن موادّ نظرية إضافية فيما «نحدد الخبرة المهنية حسب شروطنا». ومع ذلك يبقى الطرح، كما قال، خياراً سيعرضه مجلس الإدارة اللبناني في اجتماع يعقد مع الفرنسيين في الأسبوع الأول من آذار المقبل. وفي هذا الإطار، ينفي صافي أن يكون طرح سحب الشهادة الفرنسية وارداً، فالبعثة جاءت للتقويم وليس لديها صلاحية القرار. ويلفت «إلى أننا نعد ملفاً كاملاً عن المراكز ونسبة الطلاب الذين يعملون». ويراهن صافي في اجتماع باريس على مراعاة الظروف الاقتصادية اللبنانية لجهة قلة فرص العمل، مؤكداً «أنْ لا نية في التراجع عن تجربة المراكز». هنا تسأل الأوساط الطالبية: «لماذا ننشئ المراكز ثم نسعى لملائمتها حسب شروطنا؟». أما صافي، فيشدد على «أن الحل لن يكون سياسياً لأن السياسة لم تدخل المعهد قطّ». يوافق مدير الفرع الرئيسي للمعهد الدكتور الياس الهاشم على خيار إبقاء المراكز في المناطق، ويرى أنّها لا تحتاج إلى تجهيزات بالمعنى الصحيح لأنّ الطلاب يكتسبون خبراتهم العملية في المحيط الصناعي. لكن الطلاب يتحدثون عن اختصاصات تستوجب أعمالاً تطبيقية داخل المعهد.
ومن الصيغ المقترحة للحل الاكتفاء بالتعامل مع المراكز على اعتبارها فقط، أماكن تدريس للسنتين المنهجيّتين الأولى والثانية في الاختصاصات ذات الطابع النظري، على أن تجري مراقبة سير عملها بطريقة أكثر تشدّداً. إن هذا الطرح ينطلق من فكرة تحضير الطلاب من خلال دراسة اللغات (فرنسي و إنكليزي) وبعض المواد الأساسية لكي ينتقلوا للدراسة لاحقاً في المركز الرئيسي.
وبما أنّ نسبة الذين يعملون في اختصاصهم ضئيلة، تطرح اللجنة الطالبية استيعاب مراكز المعهد في المناطق من خلال توسعة تحقيق المشروع الموجود أصلاً لدى رئاسة الجامعة اللبنانية وتسريعه، لإنشاء فروع للمعهد الجامعي للتكنولوجيا (IUT-Institut Universitaire de Technologie)، الذي يعطي شهادات (DUT-Diplôme Universitaire de Technologie). مع العلم أن هذا الحل يستوجب هو أيضاً توافر مجموعة من الشروط (المبنى، المختبرات، إعادة هيكلة البرامج وشروط التدريس...إلخ)، لكن هذه الشهادة ستسهل للطلاب فرصة إيجاد عمل، فيما يمنحهم CNAM فرصة إكمال دراساتهم العليا، من هنا تدعو اللجنة مجلس الإدارة إلى فتح حوار حقيقي وشفاف مع طلاب المعهد، كي لا تأتي الحلول «مهرّبة» على حسابهم وحساب مستقبل المعهد.


إنقاذ سمعة المعهد وحقوق الطلاب

رافق القاضي حسن عواضة معهد العلوم التطبيقية والاقتصادية (CNAM) منذ كان فكرة تلمع في خاطر الدكتور يوسف أبو نادر، الذي تولى إدارة المعهد مدى ثلاثة عقود، ويشغل منذ ذلك الحين عضوية مجلس الإدارة بصفته نائب رئيس الجمعية اللبنانية للتعليم العلمي والتقني والاقتصادي. يتذكّر عواضة كيف احتفظ المعهد، على مرّ تاريخه بسمعة أكاديمية يشهد لها المتخرّجون الذين تولّوا مراكز عالية في الجيش والمؤسسات الاقتصادية. ويؤكد «أننا في مجلس الإدارة سنتوافق على الحل الذي ينقذ هذه السمعة ويصون حقوق الطلاب. يوافق عواضة على معظم الطروحات التي يقدمها الطلاب باعتبار أنّ إنشاء المراكز يجب أن يقوم على دراسة وضع المنطقة المعنية وحاجتها إلى الاختصاصات الصناعية والمهنية. وإذا كان إلغاء المراكز صعباً في رأي عواضة أو «ربما، بعد الانتخابات»، يقول ممازحاً، إلّا أنّه يطرح إلغاء بعض الاختصاصات التي لا تتأمّن لها الشروط في الفروع