نهلة الشهالبيان الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين الذي يدين تصفية أحد مناضليها في القطاع على يد مجموعة تابعة للأمن، كان أول خروج موثوق به إلى العلن لأخبار بدأت تتسرب من غزة مع نهايات القصف الفظيع. موثوق به، لأن ما سبقه صُنّف في خانة «التشنيع» على حماس. وما سبقه كان أخباراً تناقلتها أوساط على صلة بحركة فتح أو بالسلطة، تفيد عن وقوع عشرات التصفيات، ثم أخباراً أخرى متداولة دولياً، في أوساط خبراء من الاتحاد الأوروبي، أو مناضلين من منظمات حقوق الإنسان العالمية، أو حتى برلمانيين أوروبيين مؤيدين للنضال الفلسطيني. والفئتان الأخيرتان كانتا تقولان همساً ما تنامى إلى أسماع أفرادها. فصدمة القصف المهول على غزة من جهة، والحاجة إلى عدم إيقاع اضطراب في موجة التضامن من جهة أخرى، كانتا تدفعان بهما إلى التحفّظ... وربما عدم التصديق. ثم اضطرت حركة حماس إلى التصدي بالتوضيح لهذه الأخبار، فقالت إن شمول الهجوم الإسرائيلي قصف السجون، وصعوبة توفير الصلة بالقادة المسؤولين، ووجود عملاء لإسرائيل بين المعتقلين لديها قد يفسّر ما حدث، واعدةً بالتحقيق فيه بكل شفافية، ومجدّدة تعهّدها عدم القيام بتصفيات على خلفية سياسية، واحترام الإجراءات القانونية في ما يخصّ العملاء. وأمّا بخصوص الشاب من الجبهة الشعبيّة، فأوضحت الحركة أنه قُتل «نتيجة خطأ».
ولكن، بعد انتهاء القصف، منذ أيام قليلة، تسرّبت مجدّداً أنباء عن تعرُّض جميل شقورة (51 عاماً) من خان يونس لاعتقال وتعذيب أدّيا إلى وفاته. وقد زار وفد من حماس عائلته للتعزية، وقال الدكتور يونس الأسطل، عضو قيادة حماس والنائب في المجلس التشريعي، إن حماس تقرّ بمسؤوليّتها عن وفاته وستتّخذ الإجراءات للتحقيق. ولا يبدو أنّ الرجل كان مثلاً عميلاً لإسرائيل، بل تشير الأنباء إلى ضغوط مورست عليه لتغيير شهادته في حادثة معيّنة. بل حتّى العمالة لإسرائيل لا تبرّر، كما بات متوافقاً عليه، التصفية الاستنسابية، خارج أي إطار قانوني قادر على تحمّل مسؤوليّة قراره. علماً أن ظروف الحرب تتطلّب التصدّي الصريح لهذا الواقع والتوافق على أساليب لمعالجته.
في مجال آخر، ومنذ أيام أيضاً، قامت مجموعات من أمن حماس بالاستيلاء على شاحنات ومخازن المساعدات الغذائية العائدة لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، ممّا سبّب غضب المنظّمة الدولية وإعلانها توقّفها عن عملها. وقد واجهت حماس هذا الحادث بارتباك، بدأ بالتنديد بالأونروا لأنّ مساعداتها لا توزَّع بعدل، ثم عرّج على مسألة أنها تعطيها لجمعيات أهلية لا للناس مباشرة، وهو غير مقبول بنظرها (هل لأنّه يبرز وجود منظّمات أهليّة في غزّة لا حماس وجمعيّاتها فحسب؟)، لينتهي بالإقرار الصريح بأن المسلك نتج من «خطأ تقني»، وأن المواد المستولى عليها ستعود إلى المنظمة الدولية.
ما يثير الرعب في تكرار هذه الأخطاء «التقنية»، ليس أنها تُغضب هذه أو تلك من الجماعات الدولية. وبالمناسبة، فمن يغضب هنا ليس عدواً، بل أصدقاء في دوائر متفاوتة، وجهات يحتاج إليها النضال الوطني الفلسطيني، كما يحتاج إليها المجتمع الفلسطيني في سياق بنائه لعناصر صموده. ولكن دعك من هذا الاعتبار، رغم أهميته.
ما يثير الرعب في تكرار هذه الأخطاء «التقنية» أنها تشي بمفهوم عن طبيعة المعركة الدائرة، هو في واقع الحال دون مستلزماتها ودون مستوى الوعي المناسب لها. فإمّا أنها معركة وجود بالنسبة إلى الفلسطينيين، وهي طويلة ومتعدّدة الأوجه، وتجري في أصعب الشروط وأقساها، أو أنها «إدارة» للصراع مع إسرائيل، على ما تفعل السلطة في رام الله، وإن بوسائل أخرى، وبلغة أخرى غير تلك المعتمدة من حماس.
تدخل في منطق إدارة الصراع لا بناء شروط المجابهة، عقلية الاستئثار بالسلطة، والغيرة مثلاً من جمعيات أهلية مستقلة. يدخل في منطق إدارة الصراع فحسب، وليس أبداً الانتماء إلى ثورية جذرية كما قد يتوهمون، تصور إمكان إلغاء حركة فتح بكل بساطة، أو الحلول محلها بدلاً من وضع الخطط لاستعادتها إلى أرض المعركة. كما الضيق بالجبهة الشعبية أو بغيرها من الفصائل والأحزاب والتيارات والظواهر المختلفة. ويدخل في المنطق نفسه استسهال الاعتداء على الناس بحكم السكرة التي تمنحها السلطة على الأرض، سواء الاعتداء على حياتهم الجسدية أو على نمط حياتهم. وهو لا يُنتج سوى التقوقع العصبوي، مهما بلغ حجم التنظيم أو الفئة... فهي تظل فئة ولا تصبح قائداً طوعيّاً للناس، لأناس يواجهون هذا القدر من التضحيات المطلوبة في خيارهم الحفاظ على قضيتهم، ومعها على اعتزازهم بأنفسهم... وهما لا ينفصمان!