مصطفى بسيوني *في العشرين من كانون الأول/ ديسمبر الماضي، توافد إلى نقابة الصحافيين أكثر من خمسة آلاف من موظفي الضرائب العقارية لعقد المؤتمر التأسيسي للنقابة المستقلة للضرائب العقارية. ورغم أنه لم يكن التجمع الأول لهم، فإن ذلك لم يكن بالحدث العادي في مصر بحال من الأحوال. لقد جاء المؤتمر التأسيسي في الذكرى الأولى لاعتصام هؤلاء الموظفين أنفسهم أمام مبنى مجلس الوزراء للمطالبة بحقوق مالية. هذا الاعتصام هزّ مصر ساعتها، وأسفر عن زيادة في أجور الموظفين بنسبة تجاوزت 300%.
يومها، جاء الموظفون من كل محافظات مصر النائية للاعتصام أمام مجلس الوزراء، واستمروا فيه عشرة أيام كاملة في ظل ضغوط أمنية وسياسية وحتى مناخية لم يتصور أحد أنهم سيتحملونها.
ورغم أن عقد المؤتمر التأسيسي لم يتعرض للصعوبات نفسها، إلا أنه حمل معنى أعمق بكثير، ويمكن اعتباره بحق من أهم محطات الحركة العمالية في مصر. فالموظفون الذين قدموا من سيناء وأسوان والإسكندرية ومرسى مطروح إلى القاهرة، لم يحملوا معهم أي مطالب مالية، وكانوا بالفعل قد حصلوا عليها قبل عام. ولكنهم جاؤوا بهدف واحد فقط، وهو تأسيس نقابة مستقلة للدفاع عن مصالحهم.
لقد شهدت مصر مئات الإضرابات في العامين الماضيين، شارك فيها مئات الآلاف من العمال، خلّفت جميعها حالة جديدة انتقلت بها الطبقة العاملة إلى مقدمة المشهد. ولكن الحركة العمالية المصرية ظلت في إطار مسارها الاحتجاجي تسعى إلى تحقيق مكاسب اقتصادية وتحسين ظروف العمل. وظلت النخب السياسية في مصر في مسارها من أجل المطالبة بالتغيير السياسي والديموقراطي. فهل يمكن اعتبار تطور حركة الموظفين من المطالب الاقتصادية لبناء نقابة، بداية لتحول الحركة العمالية إلى النضال الديموقراطي؟ يتوقف هذا على مفهوم النضال الديموقراطي. لقد حملت أجندة الديموقراطية عدداً من المطالب كان أهمها رفض توريث الحكم، والانتخابات النزيهة، واستقلال القضاء، والغاء قانون الطوارئ، ووقف التعذيب، وغيرها من المطالب التي حشدت القوى السياسية والنخب المناضلة من أجل الحرية. ولكنها لم تنجح قطّ في ربط احتياجات ومطالب قطاعات وفئات شعبية بتلك المطالب. على جانب آخر، ناضلت الحركة العمالية على مدي العامين المنصرمين من أجل الأجور وشروط العمل ولم ترفع أي مطلب ديموقراطي أو سياسي. ولكنها في سبيلها لتحقيق مطالبها الاقتصادية، كانت بحق، الأكثر نضالاً من أجل الديموقراطية. ففي سبيل النضال من أجل الأجر، كان لا بد للحركة العمالية أن تصطدم بقانون الطوارئ، وقانون العمل وقانون النقابات وترسانة كاملة من القوانين والتشريعات المقيّدة للحريات.
لم ينظّم العمال وقفات أمام مجلس الشعب للمطالبة بعدم تجديد قانون الطوارئ، ولكن الإضرابات في حدّ ذاتها، كانت تحدّياً للطوارئ والاستبداد. ونجح العمال بالفعل في التحدي. فرغم أن القوانين المصرية تقيّد حق الإضراب والتظاهر، استطاعت الطبقة العاملة ممارسة الإضرابات والاحتجاجات بأنواعها، حتى في المرافق المحظور فيها الإضراب مثل سكة الحديد والنقل العام والبريد. أضرب العمال وتظاهروا وانتزعوا مطالبهم، بل وأصروا دائماً على احتساب أيام الإضراب أياماً مدفوعة الأجر، وعدم حسمها من أجورهم، على عكس ما ينص عليه قانون العمل من اعتبار أيام الإضراب إجازة غير مدفوعة الأجر.
هذا الطابع الديموقراطي للحركة العمالية، وإن كان غير مباشر، يتحول لدى موظفي الضرائب العقارية إلى نضال ديموقراطي مباشر بتأسيس النقابة المستقلة. فالنضال من أجل وجود نقابة مستقلة، يطرح معركة الديموقراطية بمفهوم جديد في مصر. فكما انتزعت الحركة العمالية الحق في تنظيم الإضرابات بما يتضمنه من حق في التعبير الجماعي عن المصالح الاقتصادية والاجتماعية، يأتي بناء النقابة المستقلة انتزاعاً لحق بناء تنظيمات جماهيرية على أساس العمل والمهنة والمصالح المشتركة. ألا يمكن أن يمثّل هذا تطوراً هاماً وحاسماً في النضال الديموقراطي في مصر؟
لقد وصل عدد المنضمين للنقابة المستقلة للضرائب العقارية إلى ما يقرب 30 ألفاً من الموظفين من أصل 60 ألفاً هو عدد كل موظفي الضرائب العقارية. أصبح لديهم الاستعداد لخوض معركة بدرجات متفاوتة من أجل بناء نقابة مستقلة. لم تحشد المطالبة بإلغاء قانون الطوارئ هذا العدد من قبل! رغم أهمية قانون الطوارئ وآثاره على الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر.
إنّ تحرك موظفي الضرائب العقارية من أجل زيادة أجورهم دفعهم للاصطدام بالتنظيم النقابي الرسمي واكتشاف الفراغ النقابي الذي تعيشه الحركة العمالية، ثم اكتشاف أهمية وجود تنظيم نقابي مستقل عن الحكومة والحزب الوطني، ومستقل أيضاً عن الأحزاب والقوى السياسية.
هذا التطور للحركة العمالية من المطالب الاقتصادية إلى استقلال النقابات، بما يعنيه من أبعاد ديموقراطية وسياسية، يختلف تماماً عن محاولات التسييس القسري والمقحم على الحركة العمالية، عن طريق محاولات فرض أجندات النخب السياسية على التحركات العمالية. وهو مثل ما حدث في السادس من نيسان/ أبريل الفائت، عندما أعلن عمّال غزل المحلة موعد إضرابهم من أجل تحسين الأجور، فتلقّفت بعض التجمعات النشطة الإعلان لتجعل ـــ أو لتحاول جعل ـــ السادس من أبريل موعد الإضراب العام في كل مصر من أجل تغييرات أشمل، وهو ما أربك بشدة عمال المحلة وأدى في النهاية إلى عدم تنظيم الإضراب في الشركة.
الاتجاه إلى بناء نقابة مستقلة يهدد احتكار الحكومة للعمل النقابي، حيث تسيطر الحكومة على أهم منظمة شعبية على الإطلاق. فقد أدّى التنظيم النقابي الرسمي منذ تأسيسه في عام 1957 دور الذراع الحكومية وسط العمال. وحتى قبل ذلك، إذ استخدم عبد الناصر النقابات لحسم صراعه مع جناح محمد نجيب على السلطة في 1954، وهتفت النقابات ساعتها ضد الديموقراطية.
وظلّ بعدها التنظيم النقابي الرسمي متعهد التأييد الشعبي لأنظمة الحكم المتعاقبة، مهما كانت سياستها، حتى إن السادات حرص في زيارته لإسرائيل على اصطحاب وفد من اتحاد العمال ليكون تعويذة شعبية في الزيارة. تماماً كما حرص جمال مبارك على عقد لقاء في مقر الحزب الوطني مع أعضاء اتحاد العمال والمسؤولين النقابيين ليعرض عليهم مشروع توزيع صكوك القطاع العام على الشعب كطريقة جديدة في الخصخصة.
البصمة الشعبية المزيّفة كان لها الدور الأهم، وأحياناً الوحيد، الذي أدّاه التنظيم النقابي الرسمي طوال وجوده. وبناء تنظيمات نقابية مستقلة ليس فقط نزعاً للقناع الشعبي الزائف الذي ترتديه الحكومة، ولكنه أيضاً، تسليح للحركة العمالية الصاعدة في معاركها المقبلة بالتنظيم الضروري لتطوير الحركة ونقلها من مرحلة إلى أخرى.
قد يكون من البديهي القول بأن الحركات التي تعجز عن زيادة الأجور وتحسين شروط العمل، ستكون أعجز بالضرورة عن تغيير نظام الحكم وجملة الأوضاع السياسية والاجتماعية. والمجتمعات التي لا تستطيع أن تنتج نقابات عمالية قوية ومستقلة، يكون وجود أحزاب سياسية حقيقية فيها أمراً أصعب، لذا كان انتصار أغلب الإضرابات العمالية في معارك زيادة الأجور دفعة قوية للحركة، أدت إلى تطور هام تمثّل في حالتين بارزتين: الأولى تظاهرة 12 ألف عامل من عمال غزل المحلة يوم 17 شباط/ فبراير من العام الماضي للمطالبة برفع الحد الأدنى للأجور، عشية انعقاد المجلس القومي للأجور، وكانت المرة الأولى التي ينظم فيها العمال احتجاجاً لمطلب وطني عام لا مصنعي. والثانية عندما توجه موظفو الضرائب العقارية من كل محافظات مصر إلى القاهرة فقط لإعلان نقابتهم المستقلة. والرسالة الأكيدة التي حملها الحدثان مفادها أن إمكانات الحركة العمالية أكبر كثيراً مما ظهر حتى الآن.
* صحافي مصري