الطفل في مجتمعنا اليوم، قد يقتات على أخبار الموت في التلفزيونات، أو قد يصطدم به من خلال تجربة غير مباشرة كوفاة قريب للعائلة أو صديق لها، وقد يكون معرّضاً لصدمة الموت مباشرة، عند وفاة أحد والديه أو صديق في المدرسة مثلاً. هنا نسأل: كيف يفهم الطفل عبارة «الموت»
خضر سلامة ـ دعاء السبلاني
فقدت سوسن (4 أعوام) والدها، اقتنعت عندما قيل لها لها إنه «مات» دون أن تفهم الكلمة، فهي لا تعرف لماذا لم يعد يأتي ليلعب معها. خلال حرب تموز 2006، هربت زهراء الموسوي (8 أعوام) مع عائلتها من بلدة تمنين البقاعية إلى الشياح في الضاحية الجنوبية، لم تكن الطفلة تدرك أنها تعرّض أباها للخطر، إذ طلبت منه أن يأتيها ببعض الأغراض، خرج الأب ولم يعد، فقد أصابته شظايا القصف الإسرائيلي وقتلته. تردد زهراء «أشعر دائماً بالذنب لأنني أنا من أرسلته ليحضر أغراضي، ولو لم يذهب من أجلي لما خسرناه، ليتني ذهبت أنا بدلاً منه»، تقاطعها دموعٌ تملأ عينيها وتخنق صوتها ثم تتابع «أحس بأنفاسه في المنزل وأسمع صوته أحياناً، ولا أستطيع أن أفرح في أي عيد، لم أحتفل بعيد ميلادي منذ وفاته لأنه كان يفاجئني دائماً به». تذكر زهراء وجه والدها كما رأته لآخر مرة «قبل أن يغادر ابتسم وأعطاني مبلغاً من المال، ما زلت أحتفظ به تذكاراً منه، وقال لي لا تخافي».
أحمد مرتضى (3 أعوام) فقد والده أخيراً، تقول الوالدة إنه «يسأل دائماً عن أبيه فنقول له إنه ذهب ليحضر له الألعاب، وأحياناً نقول له إنه في العمل وسيتأخر ليعود، فهو طفل لا يدرك معنى الموت». ولكن عندما يتقرب غريب من أحمد ليسأله عن والده يرد الصغير بفرح وتعجّب «بابا! هل تأخذيني إليه أو قولي إني لا أريد ألعاباً ولا مالاً فليعد بسرعة»، أحمد يخبئ أحياناً قطعاً من الطعام في انتظار «عودة الأب» ويركض أحياناً أخرى إلى سيارة والده لينام فيها.
أما ندى حمد (6 سنوات) ففقدت والدتها وأخاها، لا تعرف عن غيابهما سوى عبارة تجيب بها بلغة الكبار «هما في السماء حيث يذهب كل من تنتهي حياته ولا أستطيع أن أزورهما لأن السماء عالية جداً»، وتضيف: «ماما كانت تحبني كثيراً تأخذني لشراء الملابس وتساعدني في الدراسة، وكان أخي يلعب معي ويصطحبني إلى مدينة الملاهي، أما الآن فأعيش مع والدي وحدنا، نذهب إلى أي مكان وحدنا ونتناول الطعام وحدنا».



في كل أنحاء العالم، نجد أطفالاً فقدوا ذويهم، وتكثر الحالات عندما ننتقل إلى المناطق التي تشهد حروباً كما هي حال لبنان وفلسطين، حيث أدت الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة إلى تزايد عدد الأطفال الذين فقدوا أحد أبويهم أو إخوة لهم أو أصدقاءهم.
«في معظم الحالات، يقصّر الأهل أو المسؤولون التربويون في تقدير حجم التأثر الذي يعانيه الطفل بفعل خسارة ما، ويعتقدون أن الطفل، لا سيما دون الخمس سنوات، قاصر في فهم المشاعر الإنسانية، وهذا موقف خاطئ» حسب المعالجة النفسية في مستشفى سانت جوستين في فرنسا، سوزان دوينارد التي تؤكد أن «الموت يلقي بوطأته على نفسية الطفل من خلال مشكلة الخسارة، أو الفقد والشوق لعاطفة ما أو لأعمال ما كان يمارسها مع المتوفّى، وفي التأثر الناتج من تأثر والديه أو محيطه، فبكاء الأم مثلاً، أو توتر الأب، ينعكسان على شخصية الطفل ومزاجه، ليُشعراه بحصول تغير ما حوله».
الاختصاصية في علم النفس، غابريلا أونشين، تلاحظ، وخصوصاً في الجيلين الأخيرين، ارتباط خبر الموت بتخيل مشهد الدم والرصاص والقتل! «المثير للقلق، أن كلمة موت تدفع أطفالاً إلى استعادة مشهد من لعبتهم الإلكترونية مثلاً، وتصور انتهائها بموت البطل قتلاً، وفي حالات أخرى، عندما يخبر الأهل الطفل عن وفاة أحد الأشخاص، يستعيد الطفل مشهداً ليس صحياً أيضاً، وهو مشهد المجازر أو الحروب على التلفاز». المشكلة إذاً، حسب أونشين، هي تعرّض الطفل لـ«عسكريتاريا» معينة في اللعب وفي الأخبار وفي محيطه، تجعل كثيراً من الأطفال قبيل نشوء وعي مستقل للحدث، يربطون بين ما يقومون به من سلوك استهلاكي للتسلية وللإعلام، بالخبر المقدم لهم عن «الموت».
«منذ عمر الخمس سنوات، يبدأ الطفل بتكوين تصوّر أشد وعياً للموت» تقول دوينار، «يدرك أن هذا الحادث هو عبارة عن تغيير جذري، وفي عمر العشر سنوات يفهم الطفل أن الموت يأتي من الداخل ومن طبيعة الإنسان، وألا علاقة له بقصص الساحرات والرسوم المتحركة»، أما كيف يتجلى التأثير النفسي «فغالباً ما تكون ردة الفعل حزناً شديداً أو بكاءً ناتجاً من الخوف من هذا المستجد المجهول، وقد تكون ردة الفعل سلوكاً عصبياً وغضباً مزمناً ناتجاً من إحساس بفقدان ملكية عاطفية معينة، ويمكن أيضاً أن تتجلى في غضب موجّه ضد المتوفّى الذي تركه ورحل».
أونشين تشدد على ضرورة التحدث عن الموت مع الطفل «بطريقة طفولية، تبعده عن ربط الخبر بما يتلقاه في يومه من الأفكار الدموية في الألعاب والتلفاز. نكران الحدث وإخفاؤه عن الطفل الذي يلتقط كل ما يسمع ويرى، يجعلانه أكثر تمسكاً بالأفكار الإعلامية، يمكن أن نشرح بأن الميت يرتاح الآن». تدعو أونشين إلى «اختيار كلماتنا جيداً عند الحوار مع الطفل، فلا نقنعه بأن الراحل سيعود يوماً إلى الحياة، أو مقارنة الموت بالنوم، لأن ذلك سيسبب له الأرق والكوابيس واضطرابات السلوك، ومن الضروري عدم القول إن الميت يراقبنا الآن، لأن في ذلك تحفيزاً لعقدة خوف، ويجب ألا يُترك الطفل ضحية لخياله الواسع والأفكار المبهمة».
أخيراً، يشدد المختصون على أنه عند فقدان الجد أو الأخ أو الصديق، يشعر الطفل بنقص الأمان، لذا يجدر تفهمه والاهتمام به، أما في حالة فقدان الأب أو الأم، فالصدمة قد تكون كبيرة وتحتاج إلى متابعة اختصاصي له.


ماذا عن الحياة بعد الموت؟ أونشيت تقول «نحترم خيارات الأسرة الدينية، ولكن المفضل أن يُعاد السؤال إلى الطفل بطريقة: وأنت ماذا تعتقد؟ وهكذا، نفتح أمامه مجال التعبير عن نفسه ومخيلته».
أخيراً، يشدد المتخصصون على عدم إحاطة الطفل بألغاز وجودية معقدة، أو كذبات ولو كانت «بيضاء»