Strong>فاتن الحاجلم يكن 10 أيار (مايو) 2006 تاريخاً عادياً في حياة حنّا غريب. في ذلك اليوم كُشف النقاب عن 35 سنة من الكفاح الصامت في صفوف الطلاب والمعلّمين. لم يخطّط المناضل الشيوعي ليوم «الانتفاضة على القهر» كما يسمّيه، لكنّه نجح في صياغة قرار نقابي مستقل في عز الانقسام الآذاري، ليواجه أخطر هجوم على حقوق المعلمين والموظفين المكتسبة. هكذا أسقط الصوت الهادر في أوساط متظاهري 10 أيار، مشروعَ التعاقد الوظيفي وتكرّس غريب نقابياً عصياً على المساومة، جاعلاً من المعلّمين خط الدفاع الأخير عن الحركة النقابية في لبنان.
يستمتع غريب في الكشف عن ظروف كوّنت وعيه السياسي في قريته «رحبة» في عكار. «وجدتُ نفسي في عائلة لا يملك فيها الوالد سوى بِذلته العسكرية و85 ليرة معاشاً تقاعدياً». يتذكّر الظلم الذي عاشته والدته، إذ عملت خادمةً في البيوت منذ طفولتها حتّى زواجها بأبيه، «ثم حرصت بعد ذلك على تعليمنا لأنّو ما في عنّا ورتة». لكنّ العائلة لم تنجُ من ديون متراكمة بفعل مرض الوالدة. وحين مرض الوالد «احتجنا إلى ألف ليرة لإخراجه من المستشفى». لم تنفع وساطة الوالدة لتوفير المبلغ من «البيك»، فاستعان حنّا بمعلمه الشيوعي، إلياس برهون. ثم شاءت الظروف أن يكون برهون في طليعة الإضراب الذي نفذه المعلمون عام 1972 ونتج منه صرف 309 معلمين كان هو بينهم. راح حنّا يجمع التبرعات مع طلاب ثانويته في حلبا لدعم المعلمين المصروفين وردّ الجميل لأستاذه.
في خطٍّ موازٍ، انصرف إلى المشاركة في حلقات تثقيفية كان ينظمها برهون في منزله في الضيعة. انخرط غريب في العمل السياسي والاجتماعي، وخصوصاً في نادي الضيعة الذي شهد فرزاً بين أبناء الضيعة الفقراء القاطنين فيها صيفاً وشتاءً، وأبناء المهاجرين وأغلبيتهم من الأغنياء.
بعد معركة المعلمين المصروفين، انتسبَ غريب إلى الحزب الشيوعي رسمياً عام 1973. في ثانوية حلبا، كانت تصله أخبار تحركات «الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية» من ابن ضيعته ورفيقه الطالب في كلية التربية، سعد الله سابا. هنا يتذكر غريب كيف «صرنا نشارك في التحرّكات ونقطع طريق عكار ـــــ طرابلس وأمام الثانوية، فيما كانت النقاشات في الصف تصل إلى أوجها مع زملائنا من «حزب الوطنيين الأحرار» و«الكتائب»». قرر متابعة دراسته الجامعية في كلية التربية، ليس محبة بممارسة مهنة التعليم، بل بسبب الواقع المعيشي للعائلة، وطُموحاً إلى الاستفادة من منحة الكليّة وقدرها 200 ليرة لبنانية شهريّاً. «لم أكن أملك من هذا المبلغ قرشاً واحداً. وضعت والدتي في جيبي خمسين ليرة، وكانت كل ما لدينا من أموال منقولة وغير منقولة (يضحك)، فاستأجرت بقيمة 25 ليرة منها سريراً في البسطا التحتا، وبقيت أدرس بما بقي لي، حتى فُرجت أخيراً ودخلت كلية التربية». يستعيد ذكريات الكافيتريا تحت الأرض التي تحولت إلى منتدى مفتوح «فوق علم، وتحت سياسة وعمل نقابي ونضالات».
اندلعت الحرب في العام الجامعي 1974 ـــ 1975، وعاد إلى رحبة عام 1976 وبقي فيها مساهماً في حماية أهلها وتوفير المساعدات والخدمات الاجتماعية. «لم أكن مقاتلاً، بل صرت أحرس مراكز الحزب الشيوعي من الجريدة إلى المطبعة وبعض المؤسسات الحزبية». في عام 1977 انقسمت الجامعة، فاختار غريب الفرع الأول لكلية التربية في الأونيسكو، وبقي فيها حتى التخرّج. وشغل في تلك الأثناء مسؤوليات طلابية في الحزب، كذلك رأس «اتحاد الشباب الديموقراطي» لفترة لا تقل عن 10 سنوات.
لم يثنِ الدخول إلى السلك التعليمي غريب عن تعاطي العمل الشبابي على الأرض «الجزء الأكبر من عملي في الحزب كان مع الناس». درّس في ثانوية صيدا للبنين، ثمّ انتقل إلى ثانوية الغبيري بعد الاجتياح الإسرائيلي، ثم اضطُرّ مع بعض الأساتذة للانتقال إلى ثانوية حوض الولاية «بسبب استباحة القوى الميليشياوية للمؤسسات التربوية». وعندما اشتد الضغط وبدأت سلسلة الاغتيالات لرموز الحزب من سهيل طويلة وحسين مروة ومهدي عامل وخليل نعوس، اضطر للانتقال في الثمانينيات إلى ثانوية وطى المصيطبة «التي كانت ملجأً للوطنيين والديموقراطيين» ولا يزال فيها حتى الآن.
من هذه الثانوية، كانت انطلاقة متابعة شؤون المعلمين، عبر تولي مسؤولية قطاعهم في الحزب. كانت رابطة أساتذة التعليم الثانوي آنذاك منقسمةً إلى لجنة تنفيذية في ما يُسمى «الشرقية»، ولجنة اتصال عليا في المناطق الثانية «التي كنا نسميها وطنية». لم تكن لدى غريب معرفة بمطالب المعلمين وتركيبتهم النقابية... لكن «رفاق» قياديين أمثال ماري الدبس وليلى الريس وإبراهيم الراسي وعماد سماحة «اشتغلوا قبلي وصرت أشتغل موتور وداير»، يقول ضاحكاًَ. ويتابع: «عملتُ في البداية مندوباً للأساتذة في الثانوية، ثم تدرّجت لأكون عضواً في لجنة الاتصال العليا، ثم عضواً في الرابطة، وصرنا ننظم انتخابات كل سنتين لم تنقطع طوال فترة الحرب».
بعد اتفاق الطائف، أصبح أمين سر لجنة الاتصال العليا، وكان رئيسها آنذاك الاشتراكي حافظ الشمعة. وفيما كان البلد يحاول أن ينهض من بين الركام، وجد النقابيون لزاماً عليهم أن يوحّدوا جسمي الرابطة. هكذا انطلقت معركة توحيد الرابطة في عام 1991 بقرار من لجنة الاتصال العليا التي كلفت غريب إجراء الاتصال مع اللجنة التنفيذية، ولا سيما مع رئيسها جورج عساف. يذكر غريب هنا كيف كان يستيقظ في الخامسة صباحاً كي يلتقي بالمعلمين في ثانويات الجبل والأشرفية، ويشرح لهم القضية قبل أن يدخلوا إلى صفوفهم. واستعان في مهمته بالكتلة اليسارية الموجودة في المنطقة، والحركة الثقافية أنطلياس، والتيار الوطني الحر، «وعملنا معركة انتخابية تسلم فيها التيار التوحيدي للرابطة قرار اللجنة التنفيذية».
في الانتخابات التوحيدية الأولى للرابطة، فازت اللائحة المدعومة من الحزب الشيوعي والمستقلين، تمكنت هذه الرابطة من تحقيق مكاسب، أبرزها حصول المعلمين في حكومة الحريري الأولى على تعويض خاص بنسبة 50 في المئة. يذكر غريب تماماً تزامن تحقيق المطلب مع حفل زفاف نجل الرئيس الحريري في باريس، فعنونت مانشيت إحدى الصحف «عرس في باريس وعرس مطلبي في بيروت».
كان التعليم الثانوي قنبلة موقوتة عام 1996، نتيجة ضرب معاشات التقاعد، فتحرّك هذا القطاع: وضعنا خطة لإجراء المباراة المحصورة بالمتعاقدين لدخول ملاك التعليم الثانوي». اليوم يعترف لنا بأن قلبه ينزف لرؤية الحركة النقابية، وهي تلفظ أنفاسها لأكثر من سبب، فهي تعيش أزمة العمل الديموقراطي في البلد بعدما تحالفت الطبقة السياسية الحاكمة بكل أطرافها على تقويض الحركة النقابية وتفريغها من مضمونها.
هل تعبت من العمل النقابي؟ «بالعكس»، يجيب بحزم «لن تبقى هذه النقابة وحيدة، وتاريخ حركة المعلمين يشهد على ذلك». أكثر ما يزعج غريب أن لا يُحفظ ماء وجهه أمام الأساتذة: «عندما أفاوض المسؤول أقول له أعطني شيئاً أقنع به الأساتذة. إنه الهاجس المسكون في ضميري ووجداني دوماً».


5 تواريخ

1953
الولادة في رحبة ـ قضاء عكار (لبنان)

1973
انتسب رسمياً إلى الحزب الشيوعي، وتدرّج فيه من مسؤول للطلاب إلى مسؤول عن قطاع المعلمين... فعضو في المجلس السياسي

1991
انطلاق معركة توحيد رابطة أساتذة التعليم الثانوي

2006
قاد تظاهرة 10 أيار (مايو) لإسقاط التعاقد الوظيفي

2009
شارك مع روابط الأساتذة والمعلّمين والموظفين في إضراب احتجاجاً على امتناع المستشفيات عن استقبال المرضى على عاتق تعاونيّة موظفي الدولة