إن لم تستطيعوا دخول البارد، فالبارد سيخرج إليكم. هذا ما كان عليه جوهر نشاط أمس «البارد إن حكى» في مسرح المدينة، الذي احتضن أكثر من مئة من أهالي المخيم وجواره اللبناني، ليرووا، بلغتهم، واقعهم بعد مرور عاصفة حرب الجيش على فتح الإسلام. وهو واقع جعلهم يستغيثون بالمجتمع المدني لكسر ما وصفوه بـ«حصار البارد» الأشدّ مضاضة على قلوب حسبت نفسها، لوهلة، جزءاً من محيطها
ضحى شمس
كأن أهل مخيم البارد قد استفاقوا فجأةً بعد الحرب على مخيمهم ليكتشفوا، أنهم فلسطينيون! أو على الأصحّ، فلسطينيون بالمعنى اللبناني السيّئ المتوجّس. فمخيمهم، الذي كنت بالكاد تستطيع تمييز أطرافه عن جواره اللبناني، بعيدٌ عن «المخيمات» في بيروت والجنوب، مسرح الأحداث الأمنية المتعاقبة. ومع أنه مخيم. فإن فلسطينيّيه كانوا على مسافة مقبولة، لهم على الأقل، من صفتهم كلاجئين، بعد نجاحهم بتحويله سوقاً اقتصادية يتنفّس منها فقراء الجوار اللبناني، في فسحة صنعها فقراء الفلسطينيين. وبقدر ما في هذا التوصيف من إدانة لتعاطي الدولة وجوار المخيم معه اليوم بعد الحرب، فإن فيه مديحاً لماضي الجوار مع المخيم، ماضٍ جعله يخال نفسه جزءاً من المجتمع المحلي، ليستفيق بعد عاصفة البارد على واقع مختلف، يبدو أنه لا ينجح في الخروج منه وحده.
ولمساعدته عبر تعميم المعرفة بأوضاعه، اجتمع أمس في مسرح المدينة بدعوة من هيئة مناصرة مخيم البارد، أكثر من مئة شخص من أهالي المخيم وجواره. هكذا، جلس خلف منصة، الشكل الأكثر تداولاً للحوار، نساء ورجال. وكما هو متداول عربياً، أُعطي الكلام أوّلاً.. للرجال. وكما هو متداول لبنانياً، تكلموا بتعابير «مدورة» أقرب إلى «الدبلوماسية». ولأنهم غير دبلوماسيين فقد حاموا حول التعابير، لا يجرؤون على تسمية الأشياء بأسمائها. إلا أن خبرتك كلبناني في استشفاف ما هو خلف الكلام «الكبير» تجعلك تترجم فوراً في عقلك: «نحن ضيوف» إلى «اطمئنوا لا توطين»، أو «طول عمرنا إخوة مع اللبنانيين» إلى «اللبنانيون يعاملوننا اليوم كأعداء».
بدأ الأمر بمداخلة مؤثّرة لسكينة العينين، التي أشارت إلى جهودهم في «تأليف لجنة حل نزاعات بعد توتر العلاقة الفلسطينية اللبنانية لأن دماً سال. لكن يا جماعة المعركة فُرضت علينا. أُقسم باسم كل نقطة دم لم نكن شركاء. نحن ضيوف لنا قرار إنساني لا سياسيّ. (تبكي). شعبنا يا جماعة يغوص في الوحل، عايش بالبراكسات التي هي زنازين لا يُعاش فيها من شدة البرد أو الحرّ». بعد دموع سكينة، تحدث الرجال. صبّ معظم الكلام في الشق الاقتصادي مفتاح الاستقرار والعيش المشترك. يريد أهل المخيم، كما بدا من كلام حسن موعد رئيس نقابة تجار البارد، استرداد سوقهم. يقول الرجل: «بعد 634 يوماً على بداية حرب البارد نقول لكم: كنا شركاء، سهّلنا المعركة على الجيش بخروجنا من بيوتنا. لم يتأثر المخيم بأحداث لبنان. كنا ركيزة اقتصادية. كان لدي 3 محال ومستودع ومبنى، كلّها أصبحت لا شيء. وهذه حال مئات التجار. كانت علاقتنا طيبة بالجوار ولهذا ازدهر المخيم وأصبح مركزاً للتجارة في المنطقة»... ثم فجأةً، يضيق بالكلام بالفصحى، فيرتفع صوته غاضباً بالعامية: «لماذا وصل الحرق والتدمير بعد انتهاء الحرب لهذا الحد؟ لماذا التخريب المتعمد؟». يضيف: «لماذا عزلنا عن جوارنا الطيب الذي نرتبط به بعلاقات مصاهرة؟ نحن بحاجة إليهم كما هم بحاجة إلينا. ازدهرت تجارتنا بالثقة المتبادلة، حتى إننا كنا نديّن ذهباً: يا عمّي حدا بيديّن ذهب؟ من يعوّض على التجار خسارتهم ما دام الجوار ممنوعاً من دخول المخيم؟».
ثم تحدث رئيس بلدية «المحمرة» التي وصفتها سكينة بـ«القرية التي احتضنت شعبنا». ارتجل الرجل على غرار خطبة يوم جمعة، كلمة أبدى فيها تفهمه «لحرب البارد التي كانت لها مبرراتها» و«للحواجز الأمنية» ولكنه استغرب «إجبار السكان على دخول بيوتهم بتراخيص». وقال إن العلاقة بالمخيم «لم تتأثر بالحرب، بل زادت المحيط تعاوناً مع جاره المبتلى، لكن هناك عوائق للتواصل أهمها التصاريح التي تضع حداً لعودة الحياة إلى طبيعتها».
ثم كانت شهادة جار المخيم في المنية عبد الله ملص الذي أشار إلى أنهم والفلسطينيّين «أهل مش ضيوف»، ثم قال: «عندي بنت معوقة عمرها 12 سنة، كانت تذهب إلى المخيم وتستفيد علماً وأدباً»، لكن منذ نكبة المخيم، أضطر إلى إبقائها في المنزل نظراً لعدم توافر منظمة للمعوقين رخيصة الكلفة في عكار. لذا بدأت الفتاة تعاني ضيقاً وحالات عصبية.
ثم أُعطي الكلام بالتوالي لسليمى القاضي التي رأت أنّ «البارد بيتنا الثاني بعد بيتنا الأول فلسطين»، ثم تقول: «كنا ساكنين فيه بروح رياضية»، تقصد التعاون مع الجوار. تضيف: «دمر المخيم. احتسبناه عند الله. لكن دمار الكرامة أقسى من دمار الحجر. معقول بدي تصريح لفوت على بيتي؟».
تليها عزيزة عبد الكريم التي تعترف: «بعد ما حدث اهتزت العلاقة مع اللبنانيين. لدرجة أن لدي صديقة من قرية بحنين، كلما ذهبت إليها يقول أولادي: منخاف عليك من اللبنانية! وهذا يحزّ في نفسي». الكلام نفسه عن جرح الكرامة كان صلب مداخلة سعاد حسين «لما منشوف اخوتنا على الحاجز رافعين ايديهم متل المتهمين منحس بإهانة فظيعة. باصات الأطفال بيطلع العسكري بيفتشها! ليش؟».
بعدها عرض المهندس إسماعيل الشيخ حسن تقارير عن معوقات إعادة الإعمار، معتبراً أن المنطقة ما زالت «عسكرية بامتياز» لكونها مغلقة بحواجز ولا يمكن دخولها دون تصاريح، إضافة إلى وجوب تحديد سبب الزيارة للزوار و«قد يرفض التصريح إن لم يقتنعوا بالسبب» تماماً كالفيزا. كما قال إنه «يجب الاعتراف بأن هناك مشكلة بإعادة الإعمار ...هناك اصطدام بين أولويات مدنية فلسطينية وأمنية لبنانية». ثم كانت اقتراحات ربما كان أظرفها لفاديا عيادي «مثل سفينة الإخوة اللي كسرت حصار غزة، ليش ما منعمل بوسطة لكسر حصار المخيم؟». اقتراح عملي، شرط ضمان محو تبعات كلمة «بوسطة» من ذاكرة اللبنانيين.