تجنّبت إسرائيل المواقع الأثرية الكبرى في غزة، ولكنها عملت بطريقة فعّالة على تدمير معالم المدينة التاريخية، لتغيّر بذلك الذاكرة الجماعية. فالصواريخ دمّرت رموز الحكم التاريخية، وقد يؤدي تصدع جدران البيوت القديمة إلى انهيارها. أما الرهان الأصعب فهو: إعادة البناء ورفع الردم لإنهاء ما بدأته إسرائيل؟
غزة ــ قيس صفدي
«كل ما في غزة مستهدف»، كلمات بسيطة تمثّل ما أدت إليه حرب إسرائيلية تدميرية استمرت 22 يوماً، لم يسلم منها البشر والحجر والشجر، ولا حتى المقابر والمباني التاريخية التي مثّلت في الماضي القريب والبعيد جزءاً من هوية المدينة. فمبنى «السرايا» مثلاً كان شاهداً حياً على كل ما عرفه سكان غزة من فترات حكم واحتلال وظلم. فالمبنى الذي يقع في وسط مدينة غزة، ظل منذ شيّده المهندس العسكري البريطاني «تيفرد» في الثلاثينيات من القرن الماضي سجناً، ومقراً عسكرياً وأمنياً. للمبنى ذكريات أليمة في نفوس «الغزاويين». إذ استخدمته قوات الاحتلال الإسرائيلي عقب احتلالها لقطاع غزة عام 1967 سجناً ومركزاً للتحقيق، ومارست في أقبيته صنوفاً شتى من وسائل التعذيب ضد المعتقلين الفلسطينيين. وحين عادت غزة إلى السلطة الفلسطينية، حافظت هذه الأخيرة على مبنى السرايا دون تغيير، واستخدمته هي أيضاً سجناً ومقراً لعدد من الأجهزة الأمنية. فظل المبنى على حاله، وبقي «حمله ثقيلاً» على سكان المدينة، فهو الشاهد على كل ما حدث.



وكانت حكومة «حماس»، عقب سيطرة الحركة الإسلامية على غزة، قد أعدت مخططات لهدم أجزاء واسعة من مباني «السرايا»، وتحويلها إلى مركز تجاري حديث وتحويل المباني الأثرية فيه إلى متحف وطني لإزالة ذكرياته الأليمة من نفوس الفلسطينيين. فأتت الحرب الأخيرة لتنفّذ تلك الرغبات! فتدمير مباني «السرايا» التاريخية، احتاج إلى غارات إسرائيلية متتالية، لتنشر الدمار في كل أركانها وتحوّل مبانيها الأثرية إلى حجارة متناثرة.
إنه جزء وشاهد حيّ على تاريخ الغزاويين خاصة والفسلطينيين عامة، دمّرته إسرائيل ومحت بذلك آثار معالم تعذيبها وسجونها. فما هي الخطة الآن؟ إنجاز ما بدأ، ورفع الأنقاض والمضي قدماً في خطة محو الذكريات، أم على الأقل المحافظة على شيء من الدمار والإشارة إلى ما حدث في الماضي القريب على تلك البقعة؟
لم تتوقف عملية تدمير التاريخ عند هذا المعلم، بل شملت أيضاً مبنى شرطة بلدية غزة، وهو أحد المباني التاريخية القليلة في غزة التي تعود إلى نهايات فترة الانتداب البريطاني لفلسطين، ويقع في «غزة القديمة» التي تعرف اليوم باسم «البلد»، وهي المنطقة التي تضم أعرق المباني والمنازل والمساجد والكنائس الأثرية والتاريخية في قطاع غزة.



يقول المؤرخ سليم المبيض «إن فهمي بك الحسيني، رئيس بلدية غزة في الفترة من 1928 إلى 1939، شيّد المبنى ليكون مقراً للبلدية واستمر كذلك سنوات طويلة. وفي أواخر عهد الانتداب البريطاني كانت هناك شرطتان، واحدة خاصة بالحكومة، والثانية بالبلدية تتكون من عشرة أفراد، مهمتها توفير الحماية لتطبيق قرارات البلدية وأحكامها. وكان ذلك الطاقم يعيش في المبنى الذي ألحقت الصواريخ الإسرائيلية دماراً واسعاً بجزئه الغربي. فهل تكون هناك اليوم إرادة لترميمه، أم يتعرّض للإزالة تحت شعار «غير صالح للاستخدام»؟
أما مبنى «قصر الحاكم»، الذي كان يعدّ «صرح غزة» ومركز استقبال الفعاليات السياسية، فقد أضحى كومة من الركام. استهدفته الطائرات الإسرائيلية مباشرة لإزالته من الوجود، فالمبنى التاريخي كان مقر إقامة رئيس حكومة حماس إسماعيل هنية.
ويقول المؤرخ الفلسطيني سليم المبيض إن «للقصر الحاكم قيمة تاريخية مهمة، لكونه يمثّل رمزاً لحقبة من تاريخ غزة الحديث. ففي خمسينيّات القرن الماضي، بنى هذا القصر اللواء المصري عبد الله رفعت واتخذ منه مقراً لإدارة شؤون غزة. وفي عهد الاحتلال الإسرائيلي ظل القصر مهملاً، ولكن مع قدوم السلطة الفلسطينية عام 1994، حوّله الرئيس الراحل ياسر عرفات إلى قصر للضيافة. وشهد زيارات لعدد من الرؤساء في مقدمهم الرئيسان السابقان بيل كلينتون والفرنسي جاك شيراك، والعاهل الأردني الراحل الحسين بن طلال، والأمين العام للأمم المتحدة سابقاً كوفي عنان... فأصبح القصر شعار «فلسطين» الدولة التي تستقبل الرؤساء. ولكن تناسى العالم «قصر الحاكم» عقب حصار الرئيس عرفات في مقر المقاطعة في رام الله وانتقال مقر الرئاسة الفلسطينية إلى الضفة الغربية. وأثار انتقال هنية الى القصر عام 2007 انتقادات واسعة، إذ إنه كرّس نفسه في السلطة، وأعطى ذلك للإسرائيليين العذر لتدمير القصر تدميراً كاملاً.
لم تقتصر الأضرار في غزة القديمة على هذا الصعيد، فبحسب لجنة من المختصين في الهندسة في الجامعة الإسلامية «لحق العديد من الأضرار ببعض المباني الأثرية في مدينة غزة، وأثرت في حالتها الإنشائية ما قد يعرّضها للانهيار. وهذه المباني تتمركز في قلب المدينة القديمة، فبعض بيوت حيّ الدرج وحيّ الزيتون لا تزال تشهد على تاريخ غزة إبان الحكم العثماني. بيوت يروي كل حجر فيها تاريخ مدينة مهدّداً اليوم بالخطر. عتبات أبوابها منحوتة، قناطرها مزخرفة، وساحاتها مبلطة... صحيح أن معظم تلك المباني كانت في حاجة مسبقة للمعالجة والترميم، ولكن الاستهداف المباشر أدّى إلى تدمير أجزاء منها والارتجاجات القوية أدّت الى ظهور الشقوق والتصدعات، بحيث إن المباني أصبحت مهددة. فبيوت الجعفراوي والعشي والوحيدي في حي الدرج، والغيلاني وشحيبر في حي الزيتون، بحاجة ماسة إلى ترميم وتدعيم فوري. وإن تركت لتنهار وحدها، فلا يمكن ملامة الحرب الإسرائيلية فقط على ذلك. فقد أصبح كل اليوم مسؤولاً عن المحافظة على تاريخ غزة.
وفي هذا الإطار، ألّفت وزارة الثقافة لجنة لتقصّي الوضع في المواقع الأثرية وفي المدينة القديمة، لا تزال في بداية عملها.


خطر

شنّت إسرائيل حرباً ضد غزة على «الجبهة التاريخية» أيضاً. فالهدف من تدمير المراكز التاريخية والبيوت القديمة هو تحويل غزة الى مخيّم للاجئين: أرض لا يتواصل سكانها مع تاريخهم بعدما خسروا الرابط الحسي معه. وإذا قامت أي عملية بناء دون المحافظة على التاريخ، يكون الفلسطينيون قد أنهوا ما بدأه الإسرائيليون.