جوان فرشخ بجالي «كانوا يقولون عنها في العصور القديمة «غزة السورية»، ولكنها أقرب إلى الطابع المصري، وهي المخرج الطبيعي لشبه الجزيرة العربية على البحر المتوسط. إنها الحاجز الطبيعي بين مصر وآسيا، وصلة الوصل بين دلتا النيل وفلسطين. غزة، كانت ملتقى القوافل الآتية من الخليج العربي، ومن اليمن. لقد سبقت الاسكندرية وأسست لها، إنها خليج مدينة البتراء ومدن الحجاز.» هكذا عرّف عنها الدكتور معين صادق في مقالاته في كتابَي «غزة على مفترق الحضارات» و«غزة البحر متوسطية». ويقول الدكتور صادق «سكنها الإنسان قبل 4000 سنة، وأسس على قمة أحد كثبانها الرملية أولى مدنها التاريخية. مدينة ذات مرفأ ينقل إلى البحر المتوسط بخور اليمن والخليج العربي. وبدأت السفن المصرية واليونانية والقبرصية تصلها لتشتري تلك المادة الأصليّة والصعبة المنال. ولأن القوافل حين تقطع الصحراء تحمل على جمالها مختلف الحاجيات، أصبحت غزة مركزاً لبيع البخور والحرير الصيني والتوابل والعطور الهندية والأخشاب والفضة... تجارة دولية من على شواطئ تلك المدينة التي تأكلها اليوم الحروب والانقسامات. تاريخ لا نزال نعرف عنه القليل القليل بسبب ضعف عمل الحفريات الأثرية في مدينة غزة والجوار. كانت أولى الحفريات الأثرية في منطقة غزة قد بدأت مع نهاية القرن التاسع عشر حين عثر فلاح على تمثال للإله زوس منحوت في الحجر الرخامي يزيد وزنه على 6 أطنان، قطعة رائعة في الجمال تتصدر اليوم قاعات متحف إسطنبول. اكتشاف كاد أن يؤدي إلى تسليط الضوء على مدينة تعجّ أرضها بالتاريخ، ولكن لم تكمل الطريق. وعادت المدينة إلى سباتها القديم، حتى عام 1911. حينها عثر عالم الآثار ماكنزي على حضارة «الفلستينيين»، سكان تلك المنطقة الأصليين، الذين دخلوا في حروب طاحنة مع الإسرائيليين. أسس الحكم البريطاني قسم الآثار في غزة وبدأت معه، الأبحاث عن هذا الشعب في محاولة للتخفيف من الدراسات بشأن تاريخ إسرائيل، والتي تركّز على الشعب اليهودي والكتاب المقدس. ولكن، لم يحوّل ذلك غزة إلى حقل من الحفريات الأثرية، رغم التأكد أن غزة القديمة مبنية بأكملها على تل أثري يعود إلى الألف الثالث قبل الميلاد. فتاريخ غزة دفين تحت أقدام سكانها. ومن المؤكد أن عملية إعادة الإعمار إن لم تترافق مع حفريات إنقاذ فستؤدّي إلى تدمير تاريخ غزة القديم، تاريخ مدينة عمرها آلاف السنين، كانت عاصمة حضارة «الفلستينيين» الخاصة بهم.
ولم تكتشف بعد تلك الحضارة بسبب العمل الأثري «الخجول جداً» في غزة. فخلال فترة الحكم المصري لم يعطَ موضوع آثار غزة أية أهمية، وخلال فترة الاحتلال الإسرائيلي يؤكد الأهالي أن آثار المدينة تعرّضت للسرقة بـ«الجملة» من جانب سلطات الاحتلال، وأن خبراء في علم الآثار سرقوا «كميات» غير محدودة من القطع الأثرية، وخاصةً تلك العمليات التي قام بها الجنرال موشي ديان. فثاني أكبر عملية نهب قام بها كانت لموقع دير البلح في غزة، حيث عثر على عشرات النواويس المنحوتة على شكل بشر تعود إلى العصر البرونزي القديم (5000 ق.م.). فاستخرجها واستحوذ عليها واستملك محتوياتها، وكلها تُحف لا تقدّر بثمن.
ثراء باطن أرض غزة بالآثار ليس مطروحاً من باب النظريات، بل هو واقع محتوم. وعلى سبيل المثال فالبعثة الفرنسية ـــ الفلسطينية أنهت سنة 1995 حفرية أثرية في بلاخية فعثرت على مركز حياتي يعود إلى فترة العصر الحديدي (1200 قبل الميلاد)، وقد أظهرت الآثار المكتشفة كيف أن المدينة كان يدخلها الفاتح تلو الآخر، ويدمرها الغزاة فتبدأ من جديد. ولكن، هل سيدمر هذه الآثار أهل غزة اليوم تحت عنوان «ضرورة الإعمار السريع»؟.