عمر نشّابة1984: كان يوماً ماطراً. الساعة الرابعة بعد الظهر. الكهرباء منقطعة وغيوم رمادية تحرم المدينة نور السماء. اقتربت السيارة من حاجز مسلّح في إحدى طرقات بيروت. حدّق رجل ملتح يحمل بندقية رشاشة وجهازاً لاسلكياً الى عيني السائق طويلاً. استمرّ الصمت دقائق تملّك خلالها الرعب السائق العجوز لكنه لم يرتجف. قال: «مرحبا شباب» بصوت خجول.
- شو اسمك يا عمّ؟
- أبو كريم يا حبيبي.
- أبو كريم شو؟
- أبو كريم الحاج.
- من وين انت يا... حاج أبو كريم؟
- من راس بيروت.
ممم ... التفت الى المقعد الخلفي وكأنه يبحث عن شيء. يستعين بمصباح يدوي في جيبه، يوجهه الى كلّ ما في السيارة ثمّ يسلّطه على وجه السائق:
- شو قلتلي اسمك؟
- أبو كريم. يجيب الرجل الستيني بصوت لا يكاد يُسمع.
- ولوين رايح يا... أبو كريم؟
- رايح جيب ولاد جيراني من المدرسة.
- ممم...
- المدرسة هون ... قريبة.
يهزّ المسلّح رأسه ويعضّ على شفّته السفلى.
«هيت هوّيتك يا بطل».
يرتفع حاجبا الرجل العجوز الذي يلتفت صوب المسلّح وهو يبحث في جيبه الخلفي عن محفظته دون أن ينجح في إمساكها من شدّة ارتجافه. وفي محاولة ثانية تقبض يده أخيراً على المحفظة فيسحبها، بينما ترتسم على وجهه ابتسامة مرتبكة. يُخرج منها ورقة مطوية هي عبارة عن إخراج قيده.
«أنا بسّ بدي جيب الولاد وارجع يا ريّس... بسّ هيك. خمس دقايق وبرجع والله العظيم!» يقول السائق وهو يعطي المسلّح إخراج القيد.
يحدّق المسلّح طويلاً الى إخراج القيد. يقرأ: القضاء: بيروت؛ محل ورقم القيد رأس بيروت 123؛ الاسم: عادل؛ الشهرة: الحاج؛ اسم الأب: رامي؛ اسم الأم وشهرتها: سميرة نجّار؛ محل وتاريخ الولادة: الحمرا 1932؛ وعندما وصل الى المذهب قرأ كلمة السرّ وردّدها بصوت عال ليسمع زملاؤه جيداً ويلتفتوا نحو السائق. ينظرون إليه كأنه تحوّل الى كائن من كوكب آخر في أفضل تقدير أو حيوان مفترس يختبئ تحت جلد رجل عجوز.
يستدير المسلّح ويبتعد خطوات ليتّصل بزميله بواسطة الجهاز اللاسلكي.
لم يسمع الرجل العجوز الصوت بوضوح. فقد قدرته على التركيز. أمسك بمقود السيارة وفكّر في الهروب لكنه ما لبث أن تراجع فوضع يديه تحت فخذيه ورفع كتفيه كأنه يعاني من البرد. «عفواً يا ريّس».
لم يجب المسلّح المشغول بجهاز الاتصال
«يا معلّم الله يرضى عليك»
لا جواب.
وبعد لحظات سمع العجوز الشاب يقول عبر الجهاز: «طيب طيب، بمون سليم، وبدنا نجمّعلو مية كلب من هالكلاب لنرجّعلو ابن عمّو يوسف... ولا يهمّك... طمّن امّو».
ونادى بعدها الشاب زملاءه على الحاجز: «يلا يا شباب اسحبوه وحرقوا السيارة».
أغمض أبو كريم عينيه وأخذ نفساً عميقاً. فتح المسلّح باب السيارة بهدوء وأمسك الرجل العجوز من شعره الأبيض وجرّه خلفه الى غرفة مُظلمة تُعرف بـ«غرفة الحرس» حيث ربطت يداه ورجلاه. ومع حلول ساعات الصباح الاولى اقتيد أبو كريم في صندوق سيارة الى مكان مجهول. وبقي في الظلام عاماً بعد عام بعد عام... هو ويوسف ومارون وعلي وطوني وعمر وإيلي ومحمد وغيرهم آلاف الذين اقتيدوا الى المجهول بفضل كلمة السرّ... ولا يزالون في المجهول حتى اليوم.
بعد أكثر من 25 سنة على الخطف على الهوية صدر أول من أمس عن وزير الداخلية زياد بارود تعميم بقبول عدم تصريح المواطنين عن القيد الطائفي وقبول طلبات شطبه من سجلات النفوس وتدوين إشارة «/» في الخانة المخصّصة لكلمة سرّ اختفاء أبو كريم.
ولا بدّ من التذكير بأنه في 26 آب 1991 صدر القانون 84 الذي يعفو عن الجرائم المرتكبة قبل تاريخ 28 آذار 1991 ومنها الخطف والقتل والاغتصاب وجرف البيوت والقرى وتدمير الأملاك الخاصة والعامة. يعني ذلك أن المسلحين الذين خطفوا أبو كريم ويوسف ومارون وعلي وطوني وعمر وإيلي ومحمد ما زالوا أحراراً، ولا نعلم هل تابوا أم سيكرّرون أعمالهم الجرمية في يوم ما، هم أو أولادهم. على أي حال، قد يستطيع الناس ربّما، بفضل تعميم الداخلية، الإفلات منهم عبر إخفاء كلمة السرّ.
(جميع الأسماء الواردة مستعارة)