سعد الله مزرعاني *في شهر تشرين الأول الماضي، كتبت مقالاً في هذه الصفحة («الأخبار» 17/10/2008 العدد 653)، بعنوان «هل يتخذ الرئيس سليمان قراراً تاريخياً؟». وقد اقترحت في ذلك المقال، تحويل «هيئة الحوار الوطني» إلى ما يجعلها صيغة تطبيقية للمادة 95 في الدستور، التي تقرّر أنه «على مجلس النواب المنتخب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، اتّخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية، وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية».
ولقد لفتني كما لفت المهمتين من اللبنانيين، أن فخامة الرئيس قد أعلن خلال هذا الأسبوع، في كلمتين له، ما يؤكد تبنيه الواضح لهذا الاقتراح. ففي خطابه الذي ألقاه في وزارة الدفاع يوم الجمعة الماضي، أعلن الرئيس سليمان أن «طاولة الحوار يمكن أن تكون نسخة عن هيئة إلغاء الطائفية السياسية المنصوص عليها في الدستور، وتتشكل بالطريقة عينها».
وقد كرّر سليمان هذا الأمر في كلمة له في زيارته منذ ثلاثة أيام إلى كل من البحرين ودولة الإمارات العربية المتحدة. فهو استعاد مع وفود من أبناء الجالية اللبنانية هناك، الفكرة نفسها، مؤكداً أنّ هيئة الحوار الوطني «هي نموذج للهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية التي يجب مناقشتها بعد استعادة لبنان عافيته». هذا الموقف المستجد في التعامل مع موضوع الحوار وجدول أعماله، يكتسب في الواقع أهمية استثنائية من جوانب عدة. الأهم والأخطر هو إقدام المسؤول الأول في الدولة، للمرة الأولى منذ إقرار «اتفاق الطائف» عام 1989، على العودة إلى بند دستوري أُهمل طويلاً بشكل متعمد ومثابر، بل أُسقط من الحسابات والمعادلات طيلة نحو عشرين سنة متواصلة!
أمّا الجانب الثاني المتصل بالأول، الذي لا يقل أهمية أيضاً، فهو ما أعلنه رئيس الجمهورية في خطابه في وزارة الدفاع، «أن الاستراتيجية الدفاعية لا تبنى بالارتجال، بل على قوائم أساسية هي القدرة العسكرية، والقدرة القومية ـــــ الاقتصادية، والسياسية...
في حرب غزة، طُبق أمر بديهي في الاستراتيجية الدفاعية التي نسعى إليها، من دون أن يكون مكتوباً. ويتلخص في طريقة منع الجرائم المرتكبة في غزة من التأثير على الوضع اللبناني. لقد قام الجيش بدوره. وكانت المقاومة جاهزة للمشاركة في الدفاع عن لبنان إذا اعتُدي عليه أو احتُل جزء منه. هذا التفاهم بين الجيش والمقاومة يشكّل أساساً صالحاً لبناء الاستراتيجية الدفاعية».
إنّ النظر إلى الاستراتيجية الدفاعية من هذا المنطلق الصحيح (واعتباره، ضمناً، هو ما يجب الأخذ به)، من جهة، واستحضار مضمون المادة 95 من الدستور المشار إلى نصّها آنفاً، من جهة أخرى، يُعدّ موقفاً متكاملاً في خطاب الرئيس على ما يقول النص الذي أوردناه سابقاً. ولا يغيّر في هذا الاستنتاج بعض ما استدركه الرئيس سليمان في البحرين، من أن هذا الموضوع تجب مناقشته «بعد استعادة لبنان عافيته». هذه العبارة قد تكون، في نظر الرئيس، محض إجرائية. ولن ندخل في تكهنات بشأن معناها ومغزاها. فربما كان المقصود بذلك الإشارة إلى الانتخابات النيابية المقبلة، من أجل استئناف الحوار حسب نتائجها وبعد زوال التوترات المرتبطة بها، في صيغة جديدة كتلك التي يوحي بها خطاب الرئيس في كل من بيروت والبحرين.
يجب أن نسارع إلى القول، إنه بمقدار ما كان موقف الرئيس مهماً (وربما تاريخياً)، فإنه أيضاً، لن يكون كافياً بالمعنى العملي. والمقصود بذلك، أن ثمة قوى ستعارض هذه الفكرة، بذريعة ضرورة بلورة الموقف من الاستراتيجية الدفاعية أولاً، أو حتى، بالنسبة للبعض، بدون ذريعة. فهذا البعض ما زال يعوّل على ما توفره «المناصفة» الطائفية من «ضمانات» في تأمين مشاركة متوازنة في الحكم وفي المؤسسات وفي إدارة شؤون البلاد...
وتلك ضمانات واهمة في الواقع. أو هي باتت مؤقتة في أحسن الأحوال. فالمنطق الطائفي والمذهبي لا يمكن فرض استمرار اجتزائه إلى أمد طويل. وسيلعب الخلل الديموغرافي المتمادي والمقترن بصراع سياسي حاد وبتدخل خارجي متفاقم، دوراً حاسماً في دفع الصيغة الطائفية للنظام السياسي اللبناني مرة جديدة، نحو شكل من أشكال الهيمنة التي نستطيع تلمس بعض مظاهرها في أكثر من حقل ومن مجال. وكان المطران المتنور والإصلاحي غريغواد حداد قد حذر من هذا الأمر، فاستحقّ نتيجة لذلك، اعتداءً من متعصب متطرف مدفوع حكماً من متضرّرين أوغروا صدره حقداً ضدّ المطران وشجعوه على ممارسة اعتدائه البشع عليه! وثمة، أيضاً، احتمالات أخرى، لا تقل سوءاً: ألم يبدأ البعض بالمطالبة بالفدرالية أو حتى بالتقسيم، إذا لم يكن مرتاحاً لصيغة التقاسم الراهنة!
وللمسألة، أيضاً، بعد آخر، ذلك المتصل بنشاط القوى السياسية والشعبية العاملة، قديماً وحديثاً، من أجل إصلاح النظام السياسي اللبناني، ومن أجل إيجاد بديل ديموقراطي لهذا النظام. هذه القوى التي أعلن بعض منها قبل يومين «اللقاء الوطني للإصلاح الديموقراطي»، مطالبة هي وسواها، بتكثيف نشاطها وضغطها الشعبي والسياسي، للمساهمة في وضع ما طرحه رئيس الجمهورية موضع التنفيذ. ويستدعي هذا الأمر أن تدلي بدلوها في مسألة الصيغ الإجرائية لبناء الهيئة الوطنية، ومنها خصوصاً مشاركة «شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية» كما نصت المادة 95 من الدستور. إن الحضور السياسي والشعبي الوازن في معادلة التأثير والضغط والمبادرة والنشاط، سيمثّل عنواناً كبيراً من عناوين المرحلة الحالية والمقبلة. وسيتعافى الوضع اللبناني حقاً (كما يأمل الرئيس سليمان)، عندما تتخلى القوى المؤثرة أو المتوهمة عن فئوياتها وأوهامها، وتضع المواد الدستورية الإصلاحية التي أقرت في اتفاق الطائف، موضع التنفيذ.
المؤسف أن اللبنانيين ما زالوا أعجز من أن يتعلموا من أخطائهم بشأن التعامل مع نظامهم السياسي. وهم إذا تعلموا شيئاً، فسيكون بكلفة باهظة ومجانية في الغالب الأعم. والغريب حقاً أن الأمر لا ينطبق على مجالات أخرى، تحتاج إلى قدر أكبر من الإقدام ومن الشجاعة ومن التطلب التنظيمي والحضاري. ففي حقل المقاومة والتحرير سجّل اللبنانيون إنجازات مدهشة وغير مسبوقة وذات وقع وتأثير تخطيا لبنان إلى المدى الإقليمي والدولي. وكذلك في مجال الانفتاح والديموقراطية أو في الحقل القومي حتى، قدّم اللبنانيون مساهمات ذات أهمية كبيرة بالنسبة لهم ولمجمل المحيط العربي.
والأحرى اليوم باللبنانيين، بالأكثرية الساحقة منهم، أن يدركوا أن هذه الإنجازات مهددة فعلاً بالضياع، ما لم يجر التخلص من النظام الطائفي الذي تداعت سلبياته مذهبياً، إلى درجة شديدة الخطورة، باتت أيضاً تهدد المصير الوطني نفسه.
لقد ارتبط تقسيم بلداننا وإضعاف بنيتنا الوطنية دائماً، بمشاريع المستعمرين للسيطرة على مصيرنا وعلى مقدراتنا وثرواتنا، وللنيل من سيادتنا واستقلالنا وحقنا في التقدم والتطور والحرية. ومقاومة التخلف والخلل في نظامنا السياسي هي أحد عناوين نهضتنا الوطنية الشاملة، إن لم تكن العنوان الأساسي لذلك.
* كاتب وسياسي لبناني