محمد بنعزيز *في بادرة مرحّب بها للقطع مع ممارسات الإفلات من العقاب، قرّرت وزارة الداخلية المغربية بداية شباط / فبراير 2009 عزل وتحريك دعوى قضائية ضد عمدة مدينة مكناس وسط المغرب، وذلك بتهمة ارتكاب خروق في الإدارة، شملت تسليم رخص بناء غير قانونية وقلة ترشيد النفقات العمومية. وقد نشرت الصحف التقرير الذي يعدّد هذه الخروق.
هذه مبادرة محمودة لمحاربة الفساد وحماية المال العام. لكن هذا ليس رأي الجميع، فقد كتب رئيس تحرير «الجريدة الأولى» في افتتاحية: «كان بود الكثير من الناس أن يصدقوا أن قرار وزارة الداخلية بتحريك دعوى قضائية ضد عمدة مدينة مكناس المعزول بشبهة الاغتناء والفساد». وقد ترتب عن عدم التصديق هذا جدل كبير.
سبب الجدل هو أن السيد العمدة ينتمي إلى حزب «العدالة والتنمية» الذي يعرّف نفسه بأنه «حزب سياسي وطني يسعى، انطلاقاً من المرجعية الإسلامية، وفي إطار الملكية الدستورية القائمة على إمارة المؤمنين، إلى الإسهام في بناء مغرب حديث وديموقراطي»، وبالتالي فهو يقر بكل مقدسات النظام. ويحدد الحزب الإسلامي مهمته في «تأطير المواطنين والمشاركة في تدبير الشأن العام وترسيخ قيم الاستقامة والحرية والمسؤولية والعدالة والتكافل»، وهو هنا يشتغل في ظل القوانين الجارية. وقد اعتُبر تولي الحزب للعمادة في مكناس، اختباراً له، بل زار السفير الأميركي السابق توماس رايلي العمدة «للاطلاع على التجربة». والآن أعلنت نتيجة الاختبار. فأين المشكلة؟
أولاً: بقيت أربعة أشهر للانتخابات الجماعية، ثانياً: تعثرت جهود تأسيس حزب صديق الملك دون أن تتوقف، ثالثاً: تروج توقعات بأن يحقق الحزب الإسلامي نتائج هامة، وقد سبق له أن احتل المرتبة الأولى في عدد الأصوات في الانتخابات التشريعية 2007.
وزارة الداخلية تقول إنّ قرار العزل والمتابعة قانوني، وإن الخروق مثبتة، وسبق للعمدة أن اطلع على التقرير الذي يفصّلها، لكن العمدة المقال يقول إنه لن يسكت والأمين العام للحزب الإسلامي يحتج على استهداف حزبه، وقد فاجأه القرار، وهو الذي يجتهد لتجنب أي توتر مع السلطة.
إذا كانت الخروق ثابتة، فإن تصديق قرار وزارة الداخلية فجأة بمحاربة الفساد والارتشاء أمر فيه نظر. ذلك أنه سبق لقضاة محلفين أن قاموا بفحص حسابات بلدية فاس، وأثبتوا خروقاً مختلفة، فقام عمدة فاس بالتهجم على القضاة وطوي الملف، وبقي العمدة الذي ينتمي إلى حزب الوزير الأول في موقعه، بل وانتخب بالإجماع أميناً عاماً منذ أيام لنقابة كبيرة. وفي السياق، يشعر المراقب برائحة طبخة بائتة، تتفشى حين يطالع وزير الداخلية اعترافات عمدة آغادير بالفساد الجاري في مكتبه البلدي.
وتُعد مكناس، أكبر منتج للخمور في المغرب، وقد كان من الطريف أن يفوز الحزب الإسلامي بعمادتها، وأخيراً كثف الحزب حملته ضد إشهار الخمور، وطالب بمنعه، منع الإشهار لا الخمر، وهو ما يضر بمصالح المستثمرين بالقطاع. ثم إن الأمين العام للحزب ارتكب خطأً تواصلياً في لقاء جماهيري حين تبجّح ونسب لحزبه قرار الملك محمد السادس بفتح حساب مصرفي لجمع التبرعات لقطاع غزة. وقد شرب الوزير الأول حليب السباع وأصدر بلاغاً شديد اللهجة ينتقد فيه استخدام القضية الفلسطينية مطيةً لأجندة سياسوية داخلية.
بعد كل هذا، يظهر أن «العدالة والتنمية» المغربي لم يصل بعد إلى مستوى نظيره التركي الذي بنى حركة سياسية واجتماعية في قلب المجتمع، حركة مدعومة شعبياً شلّت يد الجنرالات الأتراك المتحالفين مع إسرائيل. غير أن مشاكل الحزب المغربي لا تقتصر على مهارات قادته في إنتاج خطاب واستراتيجية مقبولة، وعلى قدرة مناضليه على الاستقطاب عبر إعطاء نموذج ديموقراطي ميدانياً، بل إن مشاكله سياقية أيضاً. فقد صعد الحزب التركي بعدما ارتخت قبضة الجنرالات وتفسخت شبكة الأحزاب التابعة لهم. بينما في المغرب، تمتلك الملكية التنفيذية حيوية وتشغل الكثير من المواقع، وبذلك تتمكن السلطة من توجيه ضربات إلى خصومها بطرق مختلفة، مصبوغة بالقانون.
في 2002، أُجبر الحزب عل تقليص عدد مرشحيه لكي لا يخيف المستثمرين. وبعد تفجيرات أيار / مايو 2003، وافق على قانون محاربة الإرهاب ليفوّت على الاستئصاليين المطالبة بحله. ومنذ أشهر، صيغت ضربة أخرى عن طريق تقطيع الدوائر الانتخابية، بحيث تجمع دوائر وتقسّم أخرى وتوسّع ثالثة وفق معايير مختلفة، لذا توجد دوائر يبلغ عدد الناخبين فيها ثلاثة أضعاف عدد الناخبين في دوائر أخرى، مع إعطاء الأهمية للبوادي حيث يفتقد الإسلاميون قاعدة انتخابية.
«الضربة الحالية»، أي قرار عزل العمدة الإسلامي ومحاكمته قبيل الانتخابات، ستبعث برسالة واضحة للمرشحين المحتملين لمناصب العمادة ليختاروا أحزاباً تضمن لهم السلامة القضائية والسياسية، مثل حزب عمدة فاس. والمأمول أن تؤدي هذه المبادرات إلى تقزيم الحزب الإسلامي قبل الانتخابات، وقد حدد المحلل محمد الساسي، مصدر الخطر الذي يمثله فوز حزب «العدالة والتنمية» بالقول: «إن الخطر لا يكمن بالضرورة في الكم، ولكن الخطر يأتي بالنسبة إلى الذين يعتبرون هذا الفوز خطراً، من قدرة الحزب على تغيير التوازنات ووضع البلاد في وضع جديد مع محيطها الجهوي والإقليمي ومع مؤسساتها ومع المستثمرين الأجانب؛ فهنا يكمن الخطر بالنسبة إلى الدولة لا في كم الأصوات التي حصل عليها الحزب».
بالنظر إلى حجم هذه المخاوف الجيو ــ سياسية، تصبح توقعات وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية السابق، صعبة التحقق. وكان عبد الكبير العلوي المدغري، الذي شغل المنصب من 1984 إلى 2002، قد توقع تأليف «حكومة ملتحية» في المغرب ولكنه حذّر من تحول النجاح الانتخابي للإسلاميين إلى نقمة. ومن يعدد مصائب حكومة «حماس»، مع القريب قبل الغريب، سيرى في ذلك النجاح شراً.
وقد ألّف المدغري، الذي يشغل حالياً منصب رئيس «بيت مال القدس»، ألّف كتاباً بعنوان «الحكومة الملتحية»، قال في تقديمه: «اخترنا أن نتحدث عن الحكومة الإسلامية، لأن الأوساط السياسية تتوقع مجيئها وتتوجس منها خيفة. ولا سيما أن الإسلاميين كلما تقدموا للانتخابات، وكانت نزيهة وشفافة ولو بنسبة ضئيلة، حصلوا على أصوات ومقاعد تثير الرعب في نفوس خصومهم».
بعد ذلك، ينصح الوزير السابق، الذي كان وسيطاً بين الإسلاميين والملك الراحل الحسن الثاني، بتجاوز التعامل مع الإسلاميين بالعصا والسجون، ونشر ثقافة اللهو عن طريق المهرجانات... بل ويرسل رسالة واضحة لمن يهمه الأمر ليحتاط ويستعد: «إنّ أيّ سياسي عاقل وحكيم، لا بد أن يرصد التغيرات الواقعة في محيط حكمه ويأخذها بعين الاعتبار، ويجري التعديل اللازم على سياسته لتتلاءم مع المعطيات الجديدة».
المعطى هو الصعود الانتخابي للإسلاميين، والسلوك المطلوب من ذاك الحاكم العاقل هو ألّا يقصيهم. وقد صدر الكتاب قبل الانتخابات التشريعية في أيلول / سبتمبر 2007. لكن المعطى الذي يمكن استنتاجه من سلوك السلطة قبيل انتخابات حزيران / يونيو 2009، هو أن الحكومة الملتحية صارت خارج الأجندة، ويبدو أن الأمر ينطبق حتى على المجلس البلدي الملتحي!
* صحافي مغربي