هيفاء زنكنة *تواصل الإدارة الأميركية الجديدة سياستها في الهيمنة الاستعمارية على العراق، وخاصة بعد توقيع الاتفاقية الأمنية وإطارها العام السياسي والاقتصادي والثقافي، مع اختلاف بسيط يميزها عن الإدارة السابقة. وتتمثل نقطة الاختلاف في أن الإدارة الجديدة ترمي كمية أكبر قليلاً من العظام الباقية من وجبتها الفاخرة في صحون المتعاونين معها من سياسيي الاحتلال المحليين. إذ كرّست ميزانية أكبر لتقديم صورتهم وهم يتلذّذون بمص العظام، بشكل يبدون فيه وكأنهم يتناولون وجبة الطعام الأصلية.
وقد بدا الاختلاف، في الأسابيع الأخيرة، في حملة التطبيل والتزمير المركزة من أجهزة الإعلام، على اختلاف جنسياتها، الرامية إلى إعادة تعليب المشاركين في انتخابات مجالس المحافظات وتقديم نتائجهم، باعتبارهم الحل السحري لكل ما عاناه ويعانيه وسيعانيه العراقيون على مدى أجيال مقبلة. حيث قُدّم نوري المالكي، بتغليف جديد باعتباره وطنياً قوياً وموحداً لأبناء الشعب ضد الطائفية! وصارت كلماته، وما أكثر الكلمات المنمقة الزائفة في «العراق الجديد»، مزاراً لحجاج سياسة الإدارة الأميركية. فتجشأ الرجل ألفاظ الديموقراطية المطلوبة، واصفاً الانتخابات بأنها «نصر لكل العراقيين»، و«ستوفر للمواطنين فرص العيش الكريم». ومن النقطة التي توقف عندها المالكي، انطلق آخرون؛ فوصفها أحد الشيوعيين ـــــ الليبراليين الجدد المداومين في قناة «الحرة»، بأنها «خطوة مهمة في بناء الدولة العلمانية بعد فشل الطائفية». وتبعه آخر مزايداً، بالقول: «إنها ثورة العلمانية ضد الطائفية». وإذا ما تركنا جانباً التضليل السياسي والترويجي الدعائي، فسيبقى سؤال مهم لا يريد مغادرتنا وهو: ترى ما هي الأحزاب العلمانية التي ذُكرت أخيراً وستساهم في «بناء الدولة العلمانية»، والفاعلة في مجال «ثورة العلمانية ضد الطائفية»؟
هل الحزب الشيوعي من بينها، وهو الذي أثلج سكرتيره العام حميد مجيد موسى قلب بول بريمر بموافقته على تبني نظام الخصخصة، والذي تطوّع بالتنازل عن تاريخ الحزب الشيوعي الفكري والنضالي في محاربة الامبريالية، ليصبح تابعاً وفياً لسياسة المستعمر الأميركي الجديد مقابل مقعد واحد في مجلس الحكم استناداً إلى طائفته؟
أين هي الأحزاب العلمانية الجديدة ومن هي؟ هل المعني بالعلمانية هو «القائمة العراقية» التي يترأسها إياد علاوي الذي استحق بجدارة لقب جزار الفلوجة، والمتفاخر دوماً بعمله مع أجهزة الاستخبارات البريطانية والأميركية؟ أم أنه صالح المطلك الذي ارتدى عباءة الوطنية حتى تهرأت وسقطت كلية، يوم هرول لتوقيع اتفاقية العبودية مع المستعمر الأميركي مقابل مكافأته ببضعة مقاعد في مجالس المحافظات؟
فهل العمل مع الاستخبارات الأجنبية وتبعية المحتل والمستعمر والتشدق بالوطنية بكرة وأصيلاً، هو مقياس ثورة العلمانية ضد الطائفية؟ ولكن، كما نعلم جيداً، ومنذ عام 2003، فالأحزاب الطائفية نفسها لم تتقاعس يوماً عن القيام بالشيء ذاته، بدءاً من الحزب الإسلامي الطائفي السنّي، والمجلس الإسلامي الأعلى الطائفي الشيعي، والدعوة الطائفي الشيعي؟ فمن أين ستأتي الثورة إذاً؟ وضدّ من بالضبط إذا كان كل المنخرطين في عملية الاحتلال السياسية، من طائفيين وعرقيين وعلمانيين، على الرغم من تمثيليات الاختلاف والتعددية، متوحدين في توسلهم بالاحتلال أن يبقى لحمايتهم من غضب الشعب، ومتوافقين في سرقة المال العام الذي تجاوزت مبالغه المليارات؟
وإذا ما علمنا أنّ النتيجة التي وصفت بأنها تدل على «شعبية واسعة للقائمة التي يتزعمها رئيس الوزراء»، كانت بمعدل 13% من نسبة المشاركين الكلية البالغة 51% (على افتراض تصديق النسب ونتائجها ومع توزيع البطانيات وبلوغ سعر الصوت الواحد مئتي دولار عشية الانتخابات)، في جميع المحافظات، وأن المحافظات الشمالية، ومنها كركوك، لم تشارك أساساً في الانتخابات على قاعدة إذا كانت لديك مشاكل في إحدى المحافظات فأجّل الانتخابات، وإذا ما علمنا أن أكثر الجهات فرحاً وسروراً بالانتخابات، ليس الشعب العراقي، المنشغل بالبحث عن لقمة عيشه في بلد يحتل المرتبة الثانية في قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم، بل الإدارة الأميركية، بدءاً من الرئيس أوباما، مروراً بجنراله ديفيد بيترايوس، الذي وصف نتائجها بأنها «مصدر سعادة» له، إذا ما أخذنا ذلك كله بنظر الاعتبار، لوجدنا أننا ننقاد نحو تساؤل آخر عن معاني بعض المفردات والمصطلحات وكيفية توظيفها إعلامياً. ولننظر إلى مفردات شعار قائمة المالكي «ائتلاف دولة القانون، تغيير وبناء»، وهو شعار استخدمت فيه مفردات يتعطش إليها الشعب العراقي بمقدار تعطشه للهواء غير الملوث. ولكن كما يدل الواقع، فهو استخدام للشعار تضليلي وكاذب. إذ يشير آخر تقرير أصدرته منظمة «هيومن رايتس ووتش» بتاريخ 15 ديسمبر /كانون الأول 2008، إلى «قصور تطبيق القانون والعدالة في العراق»، إذ لم تتوقف حملات الاعتقال العشوائي...
وقال نائب مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المنظمة: «العراقيون الذين يمثلون أمام هذه المحكمة لا يسعهم توقع الإنصاف». ويوثق التقرير استناد المحكمة إلى أدلة مستقاة من مخبرين سريين واعترافات قد تكون مُنتزعة بالإكراه. وتبين من الشهادات في المحكمة ومن المقابلات أن الإساءات رهن الاحتجاز، التي تتكرّر كثيراً بقصد انتزاع الاعترافات، هي ممارسة منتشرة. ويوثق التقرير قضايا احتُجز المدعى عليهم فيها لمدة بلغت عامين دون عقد جلسات تحقيق أو محاكمة. ولدى عقد المحاكمة، كان الدفاع في العادة لا يطّلع على المحتجزين وملفات قضاياهم بما يكفي أو لا يطّلع عليها بالمرة قبيل الجلسات، مما يجعل المحامي عاجزاً عن الدفاع. ودعت المنظمة «الحكومة العراقية إلى اتخاذ خطوات فورية من أجل منع الأخذ بالاعترافات وغيرها من الأدلة المنتزعة بالتعذيب، وغير ذلك من الأساليب غير القانونية، وأن تدين علناً أي استخدام للتعذيب أثناء الاحتجاز على ذمة المحاكمة». فما الذي فعله رجل دولة القانون والتغيير للحد من هذه الكوارث، ومع تزايد إصدار أحكام الإعدام بلا مبرر وتنفيذها في ظروف لخص بعضها التقرير؟
أولى خطوات التغيير، كانت الإعلان عن بناء 4 سجون جديدة في مختلف أنحاء العراق. وكانت الخطوة الثانية إعلان نائب وزير العدل يوم 24 يناير /كانون الثاني عن إعادة فتح سجن أبو غريب لاستيعاب تزايد السجناء بعد تغيير اسمه إلى سجن بغداد المركزي، باعتبار أن الاسم السابق «يثير ذكريات سيئة لدى العراقيين». مما يعني، حسب منطق المالكي في التغيير، أن المقبرة ستصبح بستاناً إذا ما غُيّر اسمها. وهي مبادرة تُحسب لقوات الاحتلال التي فتحت قرب معتقل «كروبر» في بغداد، معتقلاً أطلقت عليه اسم «دار الحكمة» لاستيعاب 600 طفل معتقل بتهمة الإرهاب تتراوح أعمارهم بين سن العاشرة إلى السادسة عشرة.
ولن نستغرب إذا ما غيّر المستعمر أسماء معتقلات بوكا في البصرة وكروبر قرب بغداد وسوسة في السليمانية بأسماء مثل مراكز التأهيل وورشات التدريب على الديموقراطية. أما معتقل الكاظمية للنساء الذي يغتصب فيه جلادو الاحتلال النساء، حسب بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق، وهي حالات أكدتها بصراحة وزيرة شؤون المرأة قبل أن تستقيل أخيراً، فربما سيسمّونه ورشة تدريب النساء القياديات.
ومن يدري فقد يكون هذا هو كل المطلوب لتحقيق مقولات «الثورة والتغيير وبناء الدولة العلمانية» في عراق ما بعد انتخابات مجالس المحافظات، حيث كل شيء مسموح ما دام لا يمس المستعمر وأمن قواته.
قد نكون بحاجة للتذكير دائماً بأن المقاومة وطرد المحتل بالقوة هما الباب الوحيد الذي يمكن أن يدخل العراق منه إلى بناء الدولة الوطنية وسيادة القانون والتخلص من الطائفية، وأن ما عدا ذلك أوهام يغذيها الاحتلال وينجرّ إليها بين الحين والآخر بعض الناس.
* كاتبة عراقية