أنسي الحاجسافَرَ مطمئنّاً
يقول الأستاذ مارسيل خليفة إن محمود درويش كان مقتنعاً، قبل الجراحة الأخيرة، بأنه سيعود منها معافى، وخاصة أن الأطبّاء طمأنوه إلى كون الخطر منها هو صفر في المئة. لقد ذهب إلى المجهول قرير الفؤاد، كما يحصل للأطفال حتّى لا يخافوا.
إننا هنا في حضرة غياب لم يأخذ علماً بحصوله. يقول الفنّان إن الكتابات التي تركها صديقه الشاعر في أسابيعه الأخيرة تنضح قلقاً وتمسّكاً بالحياة. «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي». أحقّاً يا محمود؟ أم أننا ننهيها ضمناً، ننهيها سأماً أو قرفاً، ونحن لا نزال نعلن تشبّثاً بها؟
كان يقال إن رغبة المريض (والإنسان عموماً) بالحياة تُبقيه فيها، تحميه، وما من أحد يموت إلّا إذا تخلّى عن تلك الرغبة. هل نكذب على أنفسنا؟ وهل باتت القاعدة أنَّ مَن يريد التخلّي لا يقبله الموت، ومَن يشدّ الحياة إلى صدره بكل قواه، يخطفه الموت؟
أم الراحة الوحيدة هي أن يذهب المسافر إلى الموت مرتاحاً، سواء بالغَلَط حياله أم بالكذب عليه؟


المستسلم والمستعجل
يلام المستعجل على استعجاله. ما يريده يريد تحقيقه فوراً. الثروة، الصحّة، المتعة، السلطة... الإيمان. ما المانع؟ يقال: حتى العشب، مع الصبر، يغدو حليباً. ولكن كيف للمرء أن يصبر على الصبر ما لم يكن رجاؤه بعمق يأسه ويأسه بليونة رجائه؟
يُعطى الراهب القانع بنسكه، قدوةً للباحث، حتّى لا تتجاوز لهفته حدود الاستسلام للمشيئة الإلهيّة. الإيمان لا يتأتّى إلّا ناضجاً، والنضج الطيّب العابق بالمسك والبخور هو ما انطبخ على أخفّ من النار الهادئة. شعب الله المختار هو الناس البسطاء، أهل القناعة لا الاقتناع، كائنات السذاجة والرضى لا الغطرسة والتوسّع. لا يرث الإيمان إلّا القانع بشظف عيشه وتواضع موته. هكذا يقال للمستعجل.
للمستعجل في أيّ شيء. إنه متَّهَم في أصالة نيّته وفي ثبات عزيمته. مشكوك في صدقه، على اعتبار أن الاستعجال نفحة عابرة.
باختصار تقول لك الفضيلة: انتظرْ، وانسَ أنّكَ تنتظر. استسلمْ للقوّة الخفيّة وتنازلْ لها عن إرادتك. وعلى قَدْر استسلامك يأتي ثوابك.
تنسى الفضيلة شيئاً: تنسى أن قوّة الإرادة، عندما تبلغ مسافات بعيدة استثنائية، تتحوّل هي أيضاً قوّة خفيّة، تتذاوب القوّتان، ويعود الجزء واحداً مع الكلّ والمحدود واحداً مع غير المحدود والبَشَريّ والإلهيّ واحداً بلا تفرّع. السرّ هو في التغلب على التصنّع. الإرادة البشريّة الصرفة، الصافية الصوفيّة، الإرادة السَّهْميّة الثاقبة، الخالية تماماً من الإخراج المتكلّف، المرتمية كليّاً في أحضان شغفها، في خضمّ دعائها، في نيران رأسها، هذه الإرادة غير المتصنّعة تجترح العجائب، لأنّها، بدون وعي، أو بالأحرى بالوعي الأعلى من الحساب، تَقْتحمُ الطاقةَ العظمى وتُعانقها عناق حبيبين بعد فراق.


الظلّ الجبان
إزالة السدود أم تحصينها؟ مع الأولى يتدفّق الموج، تُرْفَع الكلفة. مع الثاني تتعمّق العزلة.
رَفْعُ الكلفة يأتي بالورد والشوك. ضريبة الأُنس قد تكون أشدّ وطأةً من الوحشة.
تدعيم الحدود والسدود يُنَشّف القلب لكنّه يَضْمن الهدوء والخصوصيّة ونظافة المكان.
شيء من هذه وشيء من ذاك؟
لعلّهما.
... وبئسهما...
صعوبة المحافظة على توازن كهذا هي أبشع الصعاب بين تطرّفَيْن، وأبغضُ التوازنات، وأبعد الفضائل عن نكهة الحياة.
الظلّ، الظلّ اللطيف عادةً، والبادي غايةً من غايات المسير، الظلُّ الناجمُ عن الاعتدال بين هذين القطبين، ظلٌّ حسابيّ وجبان. أين الحل إذاً؟ إنه في بقاء المشكلة: حيث المعاشِرُ المختلِط يزداد تحسّسه بداخله كلّما اندلق إلى الخارج، وحيث المنعزل المختبئ يزداد تسامحاً مع البعيدين عن سمعه ونظره، وتعاطفاً وإيّاهم، وإيغالاً في معاشرتهم...

لَهْو
عبارة في رسالة: «اللهو فيه «اللّه»، والواو التي تعطفنا عليه، أو التي تسبقنا فنستأنف الوجود بعد».


«الوحش الأخضر العينين»
يقول شكسبير: «ما أكثر ما دَفَعَتْ مشاهدةُ أدوات الجريمة إلى ارتكاب الجريمة!». وكم من المرّات رؤية شعب مقبلٍ على الحياة بكل جوارحه، ناجح فرح حتى الوقاحة، تؤدّي إلى كراهيته، ولدى القادر والمتعدّد الحافز، إلى تدبير هلاكه... نعم، رؤية السعداء تؤجّج الغيرة، وليس أَقتل من الغيرة، «هذا الوحش الأخضر العينين»، على تصوير شكسبير أيضاً.
كيف النجاة من «العين»؟
حياة بكاملها، تاريخ بأسره يمكن اختصارهما بذلك السؤال البسيط، حيث يبدو، مرة أخرى، لا الخير وحده مكشوفاً للأذى، بل أيّ مَنْظرٍ يوحي الحَسَد لمَن يظنّه أوفر حظّاً منه.
... وحيث، مرّة أُخرى أيضاً، يُخيَّل إلى الوجدان المقهور أنْ لا جواب على الشرّ إلّا بالشرّ.


الكذّاب مضحكاً، مخيفاً، مرغوباً
كان التهذيب يتقدّم على الصدق. الحشمة، آداب السلوك، التحفّظ. «أجمل الشعر أكذبه» ليست شعاراً محصوراً بالعرب بل يمكن تتبّع آثاره في الآداب القديمة ابتداءً من الملاحم ومبالغاتها. الأديان لم ترفع الصدقَ إلى مستوى الفضائل الجذريّة، ولولا سرّ الاعتراف في المسيحيّة لصَعُبَ على الباحث الدلالة على مواضع يرقى فيها الصدق إلى مستوى الإيمان نفسه. تربية الأطفال، التي قامت على الزَّجْر، علّمتهم الطاعة واجتناب الكذب على الكبار دون أن تؤسّس لأخلاق الصدق. وبتلقينها الطفل واجب الطاعة زرعت فيه الحاجة إلى استنباط أساليب جديدة للمحايلة.

يغيظنا الكذّاب المتواري لا الكذّاب الحاسر. المتواري الحاذق يتلاعب، ينتهز المساحة البريئة في ضحيّته. الحاسر، الفظّ، أكثر براءة بمعنى الغشمنة، لذلك لا يُحْمَل على محمل الجدّ بل يُضحك، حروفه الناتئة أشبه بالعطوس، أما مضامينه فبلا ظلال. الآخر، الموارب المخاتل، يَغدر إذ يتسلّل إلى الكذب عليك خلال شيء من الصدق، فيفتح قلبه ليأخذ قلبك، وحين يأخذه ينزل بك الهُوَينا إلى ملتوياته، مُعفِّراً ملاءتك النفسيّة بأمواج الزَّيف.

هناك أشخاصٌ تشعر وأنت معهم بأنهم يستعملونك و«يريدونك» كالدمية، وأنت تطاوعهم ظنّاً منك أن امتناعك قد يجرح شعورهم، وكلّ ما في هيئتهم يحمل على التقدير والتجاوب. ليسوا جوهراً بل محض شكل على مغناطيس أو مغناطيس يبتكر أشكاله الجذّابة ويُوقع الأهداف بين أشداقه. هنا يرتفع الكذب إلى مستوى السحر، ومِن أهلِهِ يُصْنَع الزعماء والممثّلون وفاتنو سائر الحقول، والويل لمَن يرمون عليه شِباكهم.

أسوأُ الأمر حين يترافق الصدق والملل. عندئذٍ يفتّش الضجران عن الكذّاب كما تتهالك الفراشة على الضوء.


عابـــرات

«ضراوة الزمن تُمزّق الروح. ومن خلال التمزُّق تَدْخل الأبديّة».
(سيمون فايل، 1909 ـــــ 1943).
■ ■ ■
شَرِّعْ نوافذنا الطليقة، بيتُنا عالٍ رحيبْ
هذا الهواءُ مُشَبَّعٌ بالملحِ مكتنزٌ بدفقِ العافيهْ
والشمسُ عندي لا تغيبْ.
سلمى الخضراء الجيوسي
■ ■ ■
... وهل القداسة إلّا ذروة شهوة؟
عبد الرحمن بدوي
■ ■ ■
شيئان ما انفكّا يثيران في نفسي الإعجاب والتهيُّب: السماء ذات النجوم من فوقي، والقانون الأخلاقي في داخلي.
كانط
■ ■ ■
أيّها التراب العميق
أنتَ الكاهنُ المتقدّم في الكَهَنة، الباسطُ بطرشيله في كرسي الاعتراف على جماجم الأرض وجباه السماء...
الياس خليل زخريّا
■ ■ ■
أبثُّ جسدي في دوّامات المياه
وأخلّف نفسي للزبل كي أنمو من الحشيش الذي أعشقه
إنْ أرَدْتَني، فابحثْ عنّي تحت نعلِ حذائك.
وولت ويتمان
■ ■ ■
إنّي أحتفل بنفسي وأتغنّى بنفسي
وكلّ ما أدّعيه أنا، عليك أنتَ أن تدّعيه
لأنّ كلّ ذرّةٍ تخصّني تخصّكَ أنتَ أيضاً.
وولت ويتمان
ترجمة جبرا إبراهيم جبرا