لم تكن المرّة الأولى التي يدخل فيها الطبيب اليوناني اللبناني الأصل، ديميتريوس مغنيّة، قطاع غزّة. لكنّها كانت الأكثر إيلاماً. فقد دخله وهو يحترق. وها هو يعود بعد 16 يوماً، ليعيد و«تجمع الأطباء» فتح ملف جرائم إسرائيل في لبنان 2006 وغزّة الآن
راجانا حمية
تسع وعشرون رحلة إلى قطاع غزة مرّت من دون أن تترك في حياة الطبيب اليوناني اللبناني ديميتريوس مغنية أي أثر يذكر. ففي كل مرّة كان يغادر فيها أثينا قاصداً فلسطين، كان يعود محمَّلاً بصور جميلة وتراب وأحجار كثيرة طلبها منه الرفاق العرب في مستشفى أثينا. مرّت تلك الرحلات كأنها لم تكن، إلى أن كانت المرة الثلاثون، في التاسع من كانون الثاني الماضي. في تلك المرة، تغيَّر كل شيء في حياة مغنية: تغيّرت الصور وتغيّر التراب، وبدلاً من أن يصوّر الزيتون، عاد محمّلاً بتقارير طبية رهيبة، وسجل بأسماء شهداء لا يكاد تعدادهم ينتهي.
«كأنه الدخول في العدم»، يقول. هكذا بدت غزة لمغنية إثر عودته الثلاثين إليها. فلحظة دخوله معبرها، بكى إذ رأى الموت فعلاً، فكانت الصورة الأولى التي التقطها صورة طفل يلفظ ما بقي له من نفس، صورة ستكون الأولى في الملف الذي سيقدّمه مغنية وأطباء آخرون من تجمع الأطباء في لبنان وأوروبا، إلى المحكمة الأوروبية لمحاكمة إسرائيل.
اليوم، عاد مغنية إلى لبنان وفي جعبته مئات الصور عن الموت الذي حدث في غزة خلال وجوده المؤقت فيها، والكثير من الكلام عن معبر رفح.
الكارثة التي عاشها في القطاع المنكوب كانت على دفعتين، لأنه اضطر إلى التزوّد بمعدات طبية خرج من أجلها إلى مصر فاليونان، ليعود إلى ساحة الوغى. زيارتان كان من «الطبيعي» بالنسبة إليه أن يعود بعدهما إلى لبنان، الذي وصل إليه أوّل من أمس، ليعيد فتح ملف كان قد بدأه في حرب تموز. «ما حصل في غزّة يفوق ما حدث طيلة 33 يوماً في حرب لبنان عام 2006». يبدأ حديثه لحظة خروجه من مطار بيروت الدولي. كان يحمل في يده حقيبتين، في واحدة أمتعة للإقامة بضعة أيّام في بيروت، وفي الثانية كل ما استطاع توثيقه عن الحالات التي عالجها في غزّة.
العائد من الأرض المشتعلة لا يزال خائفاً ومتعباً. خائف لأنه شعر أنّ رحلته إلى غزّة «كانت ستكون الأخيرة وسط عواصف القصف المجنون»، ومتعب بعدما أجرى «أكثر من خمسين عمليّة ما بين طارئة وعادية»، خلال أيام ستة، وبعدما رأى «حمامات الدم الحقيقيّة».
قبل أن يروي عن الأيام الستة عشر الدامية في القطاع، ارتأى أن يبدأ حكايته من رفح المصريّة. يقول، والغضب يكاد يخفي ملامح الوجه المتعب: «في الثالث من كانون الثاني الماضي، وصلت وأربعة أطبّاء يونانيين إلى رفح المصريّة كي نختم تصاريح دخول غزّة. كنا في تلك اللحظات نشعر بالرهبة، على اعتبار أنّ ما يفصلنا عن أداء واجبنا الإنساني بضع ساعاتٍ فقط تفرضها إجراءات الدخول». لكن لم يكن لهم ما أرادوا. فقد امتنعت السلطات المصريّة عن إعطائهم تصريحات الدخول «حفاظاً على السلامة العامة، ولأنّ المعبر ممنوع أمام الأفراد»، وما كان «مجرّد ثلاث ساعات» امتدّ.. ستّة أيّام.
لم يرحل الأطبّاء، ونصبوا منذ اليوم الأوّل «خيمة غزّة» عند المعبر. يوم، اثنان، ثلاثة، لم تحد السلطات المصريّة عن موقفها، ولم تسعف اتصالات «زيبو» (اسم الدلع لصديقهم السفير اليوناني في القاهرة) في تغيير الموقف. بعد مضي تلك الأيام، رحل ثلاثة من الأطبّاء، وبقي مغنيّة جرّاح الأعصاب ورفيقه طبيب الجراحة الدقيقة نيكولاس ناسياس في الخيمة، تارة يشربان القهوة مع الصحافيين المنتظرين هناك، وتارة أخرى يتناوبان على حمل لافتة «اسمحوا لنا بالدخول»، التي كتباها في اليوم الثاني من إقامتهم المؤقتة. وعندما كانا يتعبان من حملها، كانا «يستأجران» من يساعدهما. في اليوم السادس، وافقت السلطات المصريّة على دخولهما، بعدما وقّعا تصريحاً يفيد بأنّهما يدخلان غزّة على مسؤليتهما الشخصيّة، لأنّهما، كما قال المسؤول الأمني.. «مجنونان».
في التاسع من كانون الثاني، دخل «المجنونان» إلى غزّة، وركبا سيّارة الإسعاف التي وفّرها «الشباب» (حماس) لإيصالهما إلى مستشفى يوسف النجار في رفح. لم تكن الطريق طويلة، لكنّهما لشدّة القصف الذي كان يسقط كالمطر فوق القطاع، شعرا بأنّهما لن يصلا. في الطريق، تبادلا الوصايا، فأودع مغنيّة ناسياس «بطاقة الائتمان وبعض التفاصيل عمّا يملكه، لأنّه إذا استشهدت يستطيع ناسياس التصرّف بالمعلومات».
نصف ساعة من الشعور بالخوف، لأن «كل السيارات، حتّى الإسعاف، كانت هدفاً للإسرائيليين».
وصلا أخيراً. هنا مستشفى يوسف النجّار. رائحة الموت تفوح بقوّة، والأروقة المتشرّبة من بقع الدماء ستكون «شاهداً آخر في الملف الذي نعدّه عن الهمجيّة الصهيونيّة». يزول الخوف لحظة الوصول، لأن ما هو أهم استنفر حواسه كلها: ينسى مغنيّة أنّه في «الجحيم»، ويغرق في العمل الذي أتى لأجله. يذكر الطبيب من أيامه في غزّة غرفة العمليّات فقط، والرواق الرئيسي للمستشفى، عندما كان ينزل ليعاين المصابين الذين كانوا «يصلون في كلّ حين»، قبل توزريعهم على الغرف. كان الرواق يتحوّل إلى «ما يشبه مسلخ نهار الاثنين، عندما تكدّس الحيوانات للذبح». ويذكر أيضاً أنّها كانت المرّة الأولى التي يرى فيها «هذه الأنواع من الإصابات، التي كانت غالبيّتها في الأطراف: يعني كان يوصل الجريح أطرافه مقصوصة كأنّها بمنشار». تعيد هذه الذكريات المؤلمة مغنيّة فجأة إلى الغرفة الرقم 106 التي كان فيها في غزة، فيبدأ حديثاً من نوعٍ آخر. يتكلّم عن أنواع الإصابات «التي لم نكن نعرف معها من أين نبدأ بالمعالجة، من الرأس؟ أو البطن؟ أو من القدمين؟ فكلّ شيءٍ مدمّى ومجوّف ومحروق». يعود إلى الحيرة نفسها التي اعترته لحظة رأى أول مصاب، ليقول «استعملوا أسلحة محرّمة مثل الفوسفور الأبيض والدائم، بس ما كنا عم نعرف نحدّد طريقة المعالجة».
في الرابع عشر من كانون الثاني، انتهت عدّة الجراحة التي تستخدم لمرة واحدة فقط (كونسوما) في حقيبة مغنية. اتصل بـ«زيبو» لتوفير عدة إضافية، فأبلغه الأخير أنّ العدة موجودة في مطار القاهرة. ترك مغنية المستشفى وتوجه إلى القاهرة. هناك، منعته السلطات المصرية من أخذ العدّة، ورحّلته إلى اليونان كي يجدد التصريح.
عاد من اليونان إلى المعبر بعد سبعة أيام. كانت الحرب قد انتهت، ولكن كان عليه دخول القطاع للاطمئنان إلى مرضاه. حينها، كان شعوره مغايراً: سعادة من أسهم في ترميم بعض من حياة هؤلاء المتروكين من العالم أجمع.


طبيب الحروب

وُلد حسّان مغنيّة في صور، لكنّه لم يعش فيها سوى بضعة أشهرٍ، أخذته بعدها جدّته إلى اليونان ليصبح هناك ديميتريوس. عاد إلى لبنان متطوّعاً في صفوف الأطبّاء اليونانيين، خلال حرب تمّوز، فتعرّف جيداً إلى مسقط رأسه في صور. ورغم حبّه للبنان خلال تلك الفترة، إلا أنّه لم يستطع البقاء فيه، «لأنّني نذرت حياتي لأكون حيث الحرب».