بعد أيام فقط من انتهاء الحرب الإسرائيليّة الإرهابيّة على غزة، طلع عازف البيانو الإسرائيلي دانييل برنباوم ببيان وقّعه عدد من المثقفين العرب، بمن فيهم أدونيس وعبده وازن وإيتل عدنان وطاهر بن جلّون وعلاء الأسواني وجمال الغيطاني وسميح القاسم وميشيل خليفي ورشيد الخالدي وحنان الشيخ وغيرهم. طبعاً، هناك أيضاً ثلة من الفنانين (والفنانات) الغربيّين ممن لم يفتح فاه (أو فاها) يوماً للدفاع عن شعب فلسطين. ما معنى أن توقّع مريل ستريب، مثلاً، على هذا البيان؟ «تصطفل» مريل ستريب، كما قال رشيد الضعيف. لكنّ هناك مغزى أكيداً للتوقيت ولمضمون هذا البيان
أسعد أبو خليل*
يقول عازف البيانو الإسرائيلي دانييل برنباوم في بيانه الذي أصدره غداة الحرب على غزّة ما يأتي (ترجمتي هي للنص الذي نُشر في مجلّة «النيويورك ريفيو أوف بوكس»): «على امتداد أربعين سنة، أثبت التاريخ أن الصراع الإسرائيلي ـــــ الفلسطيني لا يُسوّى بالقوة. يجب الآن بذل كل جهد واعتماد كل وسيلة ممكنة وكل مصدر خيال وتأمّل من أجل إيجاد طريقة جديدة للسير قدماً. مبادرة جديدة تستطيع أن تخفِّف من المخاوف والمعاناة، وأن تعترف بالظلم الذي حصل، وأن توفّر الأمن للإسرائيليّين والفلسطينيّين على حدّ سواء. مبادرة جديدة تطالب كل الأطراف بتحمل مسؤولية مشتركة: لتحقيق المساواة في الحقوق والكرامة للشعبيْن، ولضمان حق كل شخص في تجاوز الماضي وفي التطلّع نحو المستقبل».
ودانييل برنباوم، كما هو معروف، أقام علاقة صداقة مع الراحل إدوار سعيد. من حق إدوار سعيد أن يصادق من شاء وأن يعادي من شاء، وخصوصاً أن مواقف الرجل تطوّرت كثيراً عبر السنوات باتجاه راديكالي. الرجل الذي رشّحه أنور السادات يوماً لترؤّس حكومة فلسطينيّة في المنفى تحوّل إلى مطالب بإنشاء دولة علمانيّة على كل أرض فلسطين. قال لي يوماً في التسعينيات إنه ينجذب باستمرار إلى فريق تحرير كل فلسطين. لكن لا أدري لماذا أشعر أحياناً بأن بعض العرب في الغربة يشعر بأن إنسانيّته لا تكتمل وأن حضارتَه لا تُثْبَتُ إلا في إقامة علاقة صداقة مع إسرائيلي. ثم ماذا كانت ثمرة الصداقة بين برنباوم وسعيد؟ تنظيم حفلات موسيقيّة بين أطفال إسرائيليّين وفلسطينيّين؟ أم أن الهدف كان تنظيم لقاء أوركسترالي بين عازفين إسرائيليّين (وبينهم بعض عتاة الصهاينة) وعازفين فلسطينيّين حتى يتسنّى لياسر عبد ربّه الحضور للشعور بأنه حضاري وعصري رغم انشغاله بتعظيم الملك السعودي في وسائل الإعلام السعودي (ويساهم إسماعيل هنيّة في تعظيم الملك السعودي هو أيضاً ـــــ وخصوصاً في رسالة تبجيل أخيرة له ـــــ إذ إن هنيّة لا علم له بتواطؤ النظام السعودي في العدوان على غزة)؟
هناك من يقول إن برنباوم يسعى لترقية الذوق الموسيقي لأطفال فلسطين، أو إنه يريد أن يجمع عازفين من فلسطين ومن إسرائيل. وأحمد عدويّة كان له غرض سامٍ على الأرجح، مع أنه لم يتنطّح لاجتراح مبادرات «سلام». وهل جنى على فلسطين أكثر من صانعي مبادرات «السلام»؟ هل صحيح أن غرض برنباوم محض فني؟ هذا يعني أن برنباوم ـــــ وإن كنت لم أستسغْ مبادراته وتصنّع حساسيّته يوماً ـــــ يؤمن بالمنطق الاستعماري الكلاسيكي، أي إنه يؤمن بأن الرجل الأبيض يستطيع، مستعيناً بالاحتلال، أن يُهذِّب الشعب المحتل وأن يُحضِّره وأن يُرقّيه وأن يُشذِّبه. يستطيع برنباوم أن يلعب البيانو، أو أن يرقص على حبل رفيع حاملاً العصا، كما يستطيع أن يجمع عازفين وعازفات من فلسطين مع عازفين من إسرائيل، ولكن بعد تحرير فلسطين لا أثناء الاحتلال، ولا في أعقاب حرب وحشيّة مدمّرة في غزة. إن كل المبادرات التي تجري في ظل الاحتلال (أو في «كنفه» كما يريد نسيب لحّود أن يضع المقاومة في لبنان في كنف مارتن إنديك) والتي لا تتصدّى بصورة مباشرة للاحتلال وعدوانه، تهدف بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وبصورة مقصودة أو عفواً لا فرق، إلى شرعنة الاحتلال، أو إلى تحويل الأنظار عنه، وكأن الشعب المُحتل ينسى الاحتلال للحظة واحدة، وخصوصاً أن الشعب المعني بالحديث هنا هو الشعب الفلسطيني ذو الذاكرة العملاقة والخلّاقة.
وهناك جانب آخر لمشاريع الموسيقى والرقص المشترك التي يرعاها برنباوم. إنها تتفق مع منهج أنور السادات (النازي الذي غفرت له الصهيونيّة نازيّته كما غفرت لمحمود عباس إنكاره للمحرقة، إذ إن الحركة الصهيونيّة لا تجد غضاضة أبداً في التحالف مع معادي اليهودية إذا هم أيّدوا الصهيونيّة) في أن الصراع العربي مع إسرائيل هو نتيجة «حاجز نفسي». واجتاز السادات هذا الحاجز في رحلتة الذليلة والمشؤومة (يبدو حازم صاغية متحسّراً اليوم لأنه لم يكن برفقة أنيس منصور على الطائرة آنذاك) وأنهى حال الحرب بين نظامه وإسرائيل. لكن الشعب المصري لم يرضخ لمنطق أنور السادات واختار طوعاً ألا يجتاز الحاجز النفسي، لأن الصراع بالنسبة له هو سياسي وقومي وأيديولوجي (أو ديني، للأسف الشديد، عند أنصار الإخوان المسلمين) لا نفسي. وحل الصراع يكون بوسائل لا علاقة لعلم النفس بها. لكن الكلام عن الحاجز النفسي، أو عن عزف الآلات الموسيقيّة بين الشعبيْن، في هذا الوقت بالذات، يهدف إلى التسليم بالأمر الواقع وبعدم جدوى النضال من أجل تغيير الواقع. إن الرقص والعزف بين فريقيْن من فلسطين ومن إسرائيل يحاول أن يروّج كذبة: أن هناك توازياً في الألم والقهر بيْن الفريقيْن وأن اللقاء بين مثقفين وفنانين دليل على هذا التوازي.
وفكرة التوازي في المعاناة هي فكرة ليست جديدة، بدأتها الحركة الصهيونيّة مبكراً من أجل طمس حركة التحرير الفلسطيني. كان الصهاينة يقولون إن «مشكلة اللاجئين» الفلسطينيّين توازي معاناة اليهود المهاجرين من الدول العربيّة، التي شاركت الحركة الصهيونيّة في تهجيرهم مثل «خطة بابل» في العراق، وإن كانت الأنظمة العربيّة تتحمّل مسؤولية عمّا جرى لهم من تهجير وتمييز واستيلاء على الممتلكات. اصطناع الموازاة هو في الزعم بأن معاناة مستوطني «سديروت» تساوي معاناة أهل غزة، أو أن «الصدمة» التي «عاناها» أهل «سديروت» لا تقلّ هولاً عن فداحة الخسائر في الأرواح بين أهل غزة، أو تزيد عنها معاناةً. أو في حديث حازم صاغيّة عن جدليّة التطرّف: إن التطرّف على الجانبيْن يلغي التطرّف في إسرائيل، أو يحمّل الشعب الفلسطيني مسؤوليّة اختيارات شعب الكيان الغاصب، وإن كان ليبراليّو الوهابيّة يتمنّعون عن هجاء تطرّف الصهيونيّة، وتطرّف الصهيونيّة جزء منها، وليس انشقاقاً عنها.
أولاً، ما يعني أن يأتي هذا البيان في هذا الوقت بالذات؟ نلاحظ، بداية، أن الموقعين (والموقّعات) اختاروا أن ينشروا هذا البيان بالإنكليزية (لعل أدونيس قد مدّ لجنة نوبل بترجمة خاصّة من أجل إسعاد خاطرها) وفي مجلة «نيويورك ريفيو أوف بوكس» بالذات. هذه المجلّة ـــــ وإن زها بقراءتها وليد جنبلاط ـــــ غير مقروءة في العالم العربي، وهي منبر معروف للفريق الليبرالي في الصهيونيّة، وهو الذي لا يقلّ عنفاً وتزمّتاً ومناصرة للعدوان عن اليمين الصهيوني. ثم لماذا الآن هذا البيان بعد مجازر إسرائيل في غزة؟ هل وجد الموقعون (والموقّعات) مبادرة سلام إسرائيليّة ما في العدوان الإسرائيلي على غزة؟ هل هناك مبادرة سلام إسرائيليّة خفيّة لم نرَها بالعين المُجرّدة واستطاع أدونيس ورفاقه الميامين رؤيتها، كما يرى «كبار العلماء» في السعودية هلال شهر رمضان بالعين المجرّدة؟ هل فاتنا شيء ما في المشهد القاتم هناك؟ لنسأل أدونيس لعلّه، وهو الساعي إلى العالميّة والنوبليّة، ينوّرُنا بما نحن به جاهلون. هل يريد الموقّعون أن يعطوا إسرائيل بالبيان ما فشلت في الحصول عليه بالقتل والتدمير والتهجير؟ هل اشتمّ الموقعون في عدوان إسرائيل فرصة للسلام وقت تتعالى الأصوات السياسيّة في إسرائيل من أجل تشريد الشعب الفلسطيني (حتى من أراضي 1948 المحتلّة) ومن أجل تطبيق برنامج التطهير العرقي الذي يلقى صدى إيجابياً في الأوساط الأكاديميّة الإسرائيليّة؟ وفي الوقت الذي اختفى فيه أي دور لما كان يُسمّى (زوراً) «معسكر السلام» (والذي كان يظهر في الساحات وفي الإعلام من أجل مصلحة إسرائيل والصهيونيّة لا من أجل مصلحة فلسطين، حتى في تلك التظاهرة اليتيمة بعد انكشاف مجزرة صبرا وشاتيلا، وكانت التظاهرة تتعلّق بالسياسة الداخليّة في إسرائيل أكثر بكثير من الشعور مع الضحايا العرب) اختار الموقّعون منح إسرائيل مكافأة مجانيّة لحربها على غزة. لعلّ هؤلاء يتفقون مع ياسر عبد ربّه ـــــ الذي لم يزعجه استشهاد شمعون بيريز به ـــــ الذي يرى الخطر في حماس لا في عدوان إسرائيل.
لكن التوقيت يخدم مصلحة إسرائيل (حتى لو لم يقصد الموقعون ذلك) في تنظيف سمعتها وفي وأد نهائي للمقاومة، مهما كانت أيديولوجيّاتها، دينيّة أو ماركسيّة أو قوميّة أو ليبراليّة ـــــ مع أن الليبراليّين في بلادنا لا يقاومون، وهم، الحق يقال، أهل التعايش مع الاحتلال. وكأن مشكلة إسرائيل، الدولة الدينيّة المبنيّة على تفوّق العنصر، هي مع أيديولوجيّات حركات المقاومة لا مع المقاومة بحدّ ذاتها، يجاريها في ذلك ليبراليّو الوهابيّة الذين يزعمون أن معارضتهم لمقاومة حماس هي من منطلق علماني وكأنهم يؤيّدون مقاومة جورج حبش. روى لي الفنان العراقي ضياء العزاوي، الذي خوّلني إعلان تنصّله رسميّاً من البيان، أن سكرتيرة برنباوم اتصلت به في حمأة العدوان على غزة وحدّثته بصورة عامّة عن بيان ضد العدوان، وأصرّ عليها أن يتضمّن البيان إدانة لحرب إسرائيل على شعب غزة. وفوجئ العزاوي عندما رأى نص البيان على مدوّنتي خالياً من أية إشارة إلى العدوان على غزة. أي إن قريحة برنباوم تفتّقت بإلهام من مشاهد قتل الأطفال في غزة، عن هذا البيان الذي تجاهل الإشارة إلى جرائم إسرائيل في غزة. لا ندري لماذا لا يبادر برنباوم إلى الدعوة لنسيان ما فات إثر عمليّات فلسطينيّة. الجواب هو أنه يريد منا أن ننسى فقط أفعال إسرائيل وجرائمها: الذكر والتذكّر والتذكير هي من حقّهم هم. لنا نحن النسيان، والدفن الصامت للضحايا.
ثانياً، كيف قرّر برنباوم ورفاقه أن يختصروا تاريخ الصراع بـ«أربعين سنة» فقط لا غير؟ على أي تقويم اعتمد برنباوم وأتباعه من المثقفين (والمثقفات) العرب؟ ماذا كان يجري على أرض فلسطين قبل ذلك التاريخ؟ وماذا عن الحروب العربيّة ـــــ الإسرائيليّة قبل ذلك التاريخ؟ هل كنا نتخيّل، أم كنا في كابوس طويل لم نفقْ منه إلا عندما بدأ دانييل برنباوم بالعزف على البيانو في ربوعنا؟ لم تتعرّض الدول العربيّة لعدوان قبل ذلك التاريخ المُستحدث؟ كنا نظن أن أدعياء المصالحة مع الصهيونيّة يريدوننا أن ننسى ما فعلت إسرائيل بنا قبل حرب 1967، لكن أدعياء المصالحة الموقعين قرّروا هكذا أن الصراع بدأ عام 1969. وهل نحن أمام إعادة لكتابة جديدة لتاريخ صراعنا مع إسرائيل بعدما قرّر عرفات في أوسلو أن الصراع بدأ طفيفاً في 1967؟
ثالثاً، لماذا يشير البيان المُزوِّر للتاريخ إلى الصراع مع إسرائيل بـ«الصراع الإسرائيلي ـــــ الفلسطيني»؟ ما هو سبب هذه التسمية الاختزالية؟ هل هي محاولة لتناسي العداء العربي لإسرائيل ولمحو آثام إسرائيل واحتلالاتها وعدوانها خارج أراضي فلسطين؟ ومن يحدّد هكذا بشطحة قلم، أو بضربة إصبع على البيانو، أن لا صراع بين العرب وإسرائيل؟ هل هذا اجترار لذلك المثل الذي كان هنري كيسينجر يستشهد به («اللي فات مات») أثناء زيارته لمصر؟
لكن صلب البيان أو فحواه يرد في عبارة أن الصراع «لا يُسوّى بالقوّة».
رابعاً، كيف قرّر فريق الموقّعين أن يصدروا حكمتهم هذه وعلى أي أساس وبناءً على أية معايير ومقاييس؟ ما هي القرائن؟ هل من حجّة تُذكر؟ على العكس، يمكن النظر إلى تاريخ الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي على امتداد أكثر من قرن (وقد بدأت جرائم الإرهاب الصهيوني على أرض فلسطين في الثلاثينيات، لمن يعاني فقداناً فظيعاً للذاكرة) واستخلاص ما لا يمكن إنكاره: أن القوة وحدها هي التي سمحت لإسرائيل بأن تسودَ (مرحليّاً طبعاً، لا أبديّاً) في منطقتنا، وأن القوة وحدها هي التي سمحت لإسرائيل باحتلال أراضي فلسطين وغيرها من الأراضي العربيّة. ولكن في المقابل، فإن القوة المُضادة وحدها هي التي فرضت مشروعيّة القضيّة الفلسطينيّة على العالم. لقد قرّر العالم (بتواطؤ عربي ـــــ ناصري وسعودي وأردني وسوري ـــــ غير خفي) تجاهل الحق الفلسطيني والإشارة إلى قضيّة الشعب الفلسطيني كمشكلة «لاجئين» في القرار 242. لكن انطلاقة الثورة الفلسطينيّة ـــــ وهي لم تكن ثورة بالشموع وبالأغاني والأهازيج ـــــ تمنع اليوم أية محاولة للقفز فوق الجوهر السياسي لاستدامة القضيّة الفلسطينيّة في الذهن الدولي، حتى لا نستعمل عبارة «المجتمع الدولي» الخاوية.
خامساً، إن المساواة الزائفة في المعاناة وفي حق الأمن بين الشعبيْن هي عمليّة مراوغة تهدف إلى الاستخفاف بمعاناة الشعب الفلسطيني، وعمليّة الزعم بظلم مزدوج ومعاناة مكرّرة بين الشعبين هي خدعة صهيونيّة ليبراليّة لم تنطلِ. كيف يمكن تكرار مقولة الدعاية الصهيونيّة ـــــ تحوّلت إلى كليشيه مُقزِّز ـــــ عن حق الشعبين بالأمن على أعتاب التدمير والقصف المنهجي والعشوائي والوحشي في غزة؟ إن مقولة الأمن كانت ولا تزال محاولة للظهور المصطنع بلبوس الضحيّة للطرف المُعتدي الذي يراكم أسلحة الدمار الشامل التي لا يلاحظها محمد البرادعي. ونظريّة لوم الطرفيْن أو مناصرة الطرفيْن تنتمي إلى سياق التخفيف من مسؤولية الخطيئة الأولى والثانية والثالثة التي تتحمّلها الصهيونيّة في مسار الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي.
سادساً، إن أخطر ما يتضمّنه البيان هو الدعوة إلى تجاوز الماضي. إن الدعوة إلى تجاوز الماضي، في الوقت الذي يستمرّ فيه حاضر الاحتلال والظلم والعدوان، هو معادلة في خدمة احتلال إسرائيل. تجاوز الماضي هكذا؟ كيف؟ هل دخل العدوان على غزة في ملفات الماضي الذي يدعو البيان إلى تجاوزه بسرعة؟ أم سيطلع علينا هؤلاء المثقفون والفنانون ببيان يدعون فيه إلى تجاوز الماضي بعد كل عدوان إسرائيلي ضد شعب عربي في أرض عربيّة؟ هل يجرؤ واحد (أو واحدة) من هؤلاء على طلب نسيان الماضي إثر عمليّة فدائيّة فلسطينيّة في إسرائيل؟ أم أن نسيان الماضي يتعلّق فقط بما تقوم به إسرائيل من احتلال وعدوان؟ هذا لا يعني أنه غير جائز النظر في «نسيان الماضي» في يوم ما، لكن بعد تحرير فلسطين لا قبله.
غير أن الصحافي الرصين والعليم، رفيق خوري، يحذّر من حرب أبديّة مع إسرائيل. هو على حق. ليست هذه حرباً أبديّة، ولم تسعَ حركة المقاومة الفلسطينيّة يوماً إلى حرب أبديّة. وبرنامج منظمة التحرير الفلسطينية، قبل تعديله على يد ياسر عرفات ودنيس روس ومارتن إنديك، كان واضحاً في رسمه أهدافاً محدّدة: يمكن المقاومة أن تنتهي في حقبة زمنيّة معيّنة عند تحقيق شروط تحرير الأرض الفلسطينيّة كاملة وعودة اللاجئين إلى بيوتهم. لكن خوري، الذي يرفض المقولات المطلقة ذات المنحى الديني، يعود ليقول إن من المستحيل بناء جيش عربي لمواجهة إسرائيل. ماذا يريد خوري إذاً؟ لا يقبل بالمقاومة ولا يقبل بالجيش الذي يمكنه أن يواجه إسرائيل. هل البديل يكمن في الرضوخ المطلق للمشيئة الإسرائيليّة، كما يفعل الرئيس المحنّط في مصر والملك الهاشمي في الأردن؟ هذان الحاكمان المُنصّبان يمثّلان نموذجيْن مُنفّريْن لبديل يرفض المقاومة والجيش الوطني. لكن خوري ينسى أن لبنان انتهج هذا المسلك قبل الحرب اللبنانيّة، وعاد وجرّبها في عهد أمين الجميّل المظلم.
والزحف نحو الاستسلام لإسرائيل بمسمّيات مختلفة جارٍ على قدم وساق: صدرت الأوامر الملكيّة والأميريّة في إعلام آل سعود. والطريف أن المسيرة تجري باسم العقلانية ومن أجل الترويج للبن بازيّة. حازم صاغيّة كان صريحاً في طلبه نسف فكرة المقاومة من أساسها. لكن هؤلاء العقلانيّين لا يلاحظون تناقضاتهم. ينادون بالعقلانيّة ويتشرّفون بالصلاة وراء ملك السعوديّة وملك الأردن عندما يؤمّان صلاة الاستسقاء. مهما جنحوا وكيفما جنحوا هم يجنحون ـــــ ومعهم مطبّلون مزمّرون ـــــ باسم العقلانيّة. وحازم الأمين العائد من زيارة غزة ـــــ عقلانيّاً طبعاً ـــــ اشتكى من تراخي إسرائيل في قصف الأنفاق وتدميرها.
يتحدّث ماركس (في «من أجل مساهمة في نقد «فلسفة الحق» لهيغل») عن الورود الخياليّة التي تغلّف القيود. ويحاول «برنباوم» وشلّة المثقفين (والمثقفات) الذين وقّعوا البيان أن يغلّفوا قيود الاحتلال بألحان من البيانو والعزف الأوركسترالي. يحاول مثقفو الاحتلال والاستسلام إيهام الرأي العام العربي بأن الموسيقى والفن لا يستقيمان بوجود مقاومة من أي نوع كان. وعى ذلك الشاعر الفرنسي الذي كتب قبل نحو قرن ونصف من الزمن في جريدة عاميّة باريس (وهي غير عاميّة قريطم) عن هذه الملابسة المزيَّفة والمزروعة على يد الثورة المضادة عندما قال عن «مهرجان المسحوقين» في فرنسا آنذاك: «لا. باريس ليس لديها جنود فقط، بل لديها مغنّون أيضاً. لديها مدافع وكمنجات. وهي تصنع قنابل «أورسيني» (الإشارة هنا هي إلى فيليس أورسيني الذي حاول اغتيال الإمبراطور في يناير 1858) وتصنع موسيقى».
لبرنباوم أن يعزف البيانو على أراضي فلسطين المحتلة، وله أن يسمع الموسيقى الكلاسيكيّة في بيوت فلسطينيّة محتلّة تحمل على جدرانها ذاكرة فلسطينيّة محفورة، لا تزول على مرّ الأعوام. ولبرنابوم أن يؤلّف سيمفونية بعنوان «العزف على أشلاء أطفال غزة». ولأدونيس، كلّما تقدّم به العمر (عتيّاً) أن يزداد استجداءً وإذلالاً من أجل الحصول على جوائز من الرجل الأبيض، وله أن يحيّي «الآنسة» «يويوما» ـــــ كما سمّاه في كلمته (في نصها المنشور في «الحياة») في جامعة كولومبيا ـــــ وأن يلحق بكنعان مكيّة الذي حصل من جامعة إسرائيليّة على شهادة فخريّة لتحقيره العرب في داخل فلسطين المحتلّة. ولنا ـــــ نحن العرب ـــــ أن نعزف وأن نرقص وأن نغنّي وأن نرسم وأن نمارس الحب والجنس والمجون والتجديف والرفض والعنفوان والمقاومة، ومن دون إشراف أو مباركة من الصهيونيّة.
* أستاذ العلوم السياسيّة
في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)