strong>ليال حدادتحاول عبثاً أن ترسم صورة مسبقة عن سهام بن سدرين قبل مقابلتها، فـ«المرأة التي يخشاها الرئيس»، ستفاجئك حتماً. تتخيّلها غاضبة ثائرة، فتجد أمامك امرأة هادئة، ناعمة وجميلة. تعبّر عن فرحها لاهتمام صحيفة عربية بقصّتها. توافق على الحوار «ليس بصفتي الشخصية بل كامرأة ومواطنة تونسيّة». الانطباع الأوّل يتناقض تماماً مع ما يروّج له بعض الصحف «الرسميّة» أو المأجورة في بلدها، إذ تنعتها بـ«الباحثة عن الشهرة».
الفتاة المولودة عام 1950 في حي المرسى شمالي العاصمة التونسيّة، عاشت طفولتها في بيئة محافظة وتقليدية. تلك البيئة نبذت والدتها لأنها أنجبت عشر بنات، قبل أن يأتي «ولي العهد»، الطفل الذكر، وتنفك اللعنة. لم تفهم سهام الصغيرة يومها أن البنات في المجتمع العربي عبء، لكنّها شعرت بأن للمرأة مرتبة دونية... وأنّ عليها أن تكافح كي تفرض مكانتها. منذ طفولتها المبكرة إذاً، بدأت بمواجهة الحدود المرسومة لها. تفوّقت في دراستها، وخصوصاً في اللغة الفرنسية... ما جعلها هدفاً سهلاً لعنصرية زملائها الفرنسيين الذين لم يقبلوا بفكرة تفوّق عربية عليهم. أما والدها القاضي في المحكمة التونسية، فكان في تلك الفترة داعمها الأساسي: «كانت متابعة دراستي أنا وإخوتي، وخصوصاً البنات، أولوية له».
لكنّ هذا الدعم سرعان ما اصطدم بالحدود المرسومة من المجتمع. تغيّر كلّ شيء حين رفض الأب المحافظ أن تغادر ابنته تونس، لتكمل دراستها الجامعية في فرنسا. لم تيأس سهام من النضال لتحقيق مرادها... أبلغت العائلة قرارها: «فرنسا، أو لا شيء!». بعد أخذ وردّ طويلين، رضخ الوالد لمطلب ابنته «العنيدة»، فحزمت حقائبها، ويمّمت شطر مدينة تولوز الجنوبيّة. لكن «الحلم الفرنسي» سرعان ما تحطّم على صخرة الواقع... في الجامعة حيث قرّرت دراسة الفلسفة، كان بعض زملائها يتصوّرون أن الناس هناك «يتنقّلون على الجِمال». وهناك مَن سألها: «حين تمطر كيف تحميكم الخيم من الماء؟»... ابتسمت يومها سهام ولم تجد نفسها مضطرّة للإجابة.
مثّل أيلول (سبتمبر) 1970 مفترق طرق لهذه الطالبة التونسية. حين يضرب جيش عربي الفلسطينيين، تتحوّل الفلسفة ترفاً، ويصبح الانخراط في العمل السياسي أولويّة مطلقة. وجدت الطالبة نفسها مناضلةً في لجان الطلاب الفلسطينيين في فرنسا. ومن عملها مع الفلسطينيين إلى عملها مع اللجان الطلابيّة المغاربيّة اكتشفت أن «البؤس العربي واحدٌ... وإن اختلفت أسبابه».
في 1975، اصطدمت الناشطة السياسيّة بعواقب جديّة للمرّة الأولى. قررت العودة إلى تونس، فاكتشفت أنها ممنوعة من الدخول ومطلوبة للتحقيق... عادت أدراجها، ولم تدخل بلدها إلا في 1977. يومها كان نظام الحبيب بورقيبة منشغلاً في مواجهة التظاهرات العمالية، فغضّ النظر عن ملفّها. «مع ذلك، أوقفوني في المطار، لكنهم لم يسجنوني». منذ ذلك اليوم، علمت سهام أن حياتها تغيّرت، وأن خوض معركة الديموقراطيّة ستتطلّب منها الكثير من التضحيات. لكنّها، مرّةً أخرى، لم تتراجع.
متخرّجة الفلسفة بدأت حياتها المهنيّة في مكتب شركة ملاحة. لكنّها قدّمت استقالتها بعد فترة وبحثت عن عمل آخر يتناسب مع شخصيتها. وجاءت الأحداث السياسية لتفتح لها آفاقاً جديدة. في أواخر 1979، وإثر المواجهات النقابيّة مع السلطة، والضغوطات التي مارستها النقابات على بورقيبة، أعطى الزعيم التونسي رخصاً لعدد من الصحف المستقلّة. وجدت سهام طريقها من خلال مهنة الصحافة: من مجلة «المنار» الناطقة باللغة الفرنسية التي أقفلت عام 1982 «لأنها تنتقد الحكومة»، إلى مجلة وراديو «كلمة» اللذين ما زالت بن سدرين تديرهما حتّى اليوم... عاشت المرأة حياةً صحافية حافلة. تتنبه وهي تروي تفاصيل مسيرتها المهنية إلى أن معظم الصحف التي عملت فيها، واجهت المشاكل. «ورغم ذلك كان هناك هامش لحرية التعبير في تونس... على الأقلّ، لم أكن أجرّ إلى السجن كلّ مرة أكتب فيها شيئاً يزعج النظام». اليوم الأيّام تغيّرت.
نحن في 1985. إسرائيل تقصف حمّام الشط في تونس، حيث قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. ينزل التوانسة إلى الشارع في تظاهرات صاخبة احتجاجاً على هذا الهجوم وتواطؤ بعض الأنظمة العربيّة. وطبعاً كانت سهام بن سدرين على رأس إحدى التظاهرات فـ... سيقت إلى السجن 15 يوماً. منذ ذلك اليوم، أصبح السجن رفيقها، وخصوصاً بعد منعطف «السابع من نوفمبر»، واستلام زين العابدين بن علي مقاليد الرئاسة في تونس إثر انقلاب «أبيض» على الحبيب بورقيبة. «أوّل ما فعله كان القضاء على الصحف المستقلة»، تقول وقد تغيّرت نبرة صوتها. الحديث عن النظام الحالي «وانتهاكه لحقوق الإنسان التونسي وحريته»... يخرجها كلّ مرّة عن هدوئها المعتاد.
في 1990 بدأت الحملة الأشرس على الصحافة، وعمليّة التضييق على الإسلاميين. المرأة العلمانيّة المتحررة، دافعت عن الإسلاميين بلا تردّد تحت شعار «إن أخطأوا فحاكموهم، لكن لا تعذبوهم». حماستها هذه جعلتها فريسة للنظام الذي أقفل «دار أقواس للنشر» (أسستها عام 1988). وجنّد الأمن عدداً من السيارات لمراقبتها: «كانوا يصطدمون بي وأنا أقود سيارتي على الطريق»!
الهجوم الأعنف ضدّها بدأ عام 1991 حين راحت الصحافة المأجورة تنعتها بـ«المرأة الفاسقة والفاسدة والعاهرة»... الأمر نفسه تكرّر أمام أعيننا بعد ١٧ سنة، خلال مشاركتها في «المنتدى العربي الثالث للصحافة الحرة» الذي انعقد منذ شهرين في بيروت، حين شتمها بعض الحاضرين بالتونسيّة، بدا واضحاً للجميع أنّهم رجال أمن اندسّوا بين الجمهور. تبتسم سهام، وتقول إنّ تلك الأساليب لم تمنعها من مواصلة نضالها... حتّى حين وصل الأمر بأيد «مجهولة» إلى توزيع صور إباحية مركّبة لها. وصلت الصور إلى كل معارفها، إلى المحامين والأطباء والناشطين الذين تتعامل معهم. ووصلت طبعاً إلى مدرسة ولديها زياد ومحمّد وحضانة ابنتها آسيا، حتّى أنّ «مجهولين» هددوا ابنها الصغير بالاغتصاب لكنّه استنجد بأحد أساتذته.
هذا بعض ما تعيشه سهام التي تعتبر اليوم في بلدها من رموز المعركة من أجل الديموقراطيّة وحقوق الإنسان. في 1994 احتجزت السلطات جواز سفرها وجواز سفر زوجها المناضل عمر المستيري، لمنعهما من السفر، ولم يستعيداهما إلا في 2000. يومها اكتشفت سهام أنها شخص غير مرغوب به في الجزائر ومصر وسوريا. هي تعيش اليوم (على منحة نمساوية) بين فيينا وتونس، وحين تسألها عمّا تغيّر في تونس خلال السنوات الأخيرة، تجيبك ببساطة: «لا شيء! يروّج النظام أن تونس بلاد الحريات وحقوق المرأة والسياحة... لكن ذلك غير صحيح. إنها حالياً بلد السلطة المطلقة المحصورة في يد رجل واحد». ولا يفوت هذه المناضلة الباسلة أن توجّه انتقاداً قاسياً إلى أوروبا. كالعادة الأنظمة الديموقراطيّة متواطئة مع الأنظمة المستبدّة والفاسدة والدمويّة... تغضّ النظر، من أجل مصالحها الاستراتيجيّة، عن بؤسنا وشقائنا في هذه المنطقة من العالم... إلا حين يناسبها العكس طبعاً: «على أبواب أوروبا تقبع ديكتاتوريات مخيفة، وأوروبا تصرّ على حمايتها».


5 تواريخ

1950
الولادة في المرسى، شمال العاصمة التونسية

1993
حملة الصور الإباحية المركبة التي حاولت الإساءة إليها في تونس

1998
أسست مع عدد من الناشطين «المجلس الوطني للحريات»

2001
اعتقالها في مطار تونس بعد حوار تلفزيوني كشفت فيه عن التعذيب الذي يمارس ضد السجناء

2009
مجلة «روز اليوسف» القاهريّة نشرت افتراءات ضدّها على شكل «إعلان مدفوع» مرفق بصورة الرئيس زين العابدين بن علي