اختيار شريك العمر مسألة ترتبط بعدد من العوامل، المختصون في علم النفس وعلم الاجتماع يلفتون نظرنا إلى تكوينات كل شخصية وإلى التربية التي خضع لها المرء. وفيما يشكل الارتباط بالشريك خطوة للتعرف إلى بيئاته المتنوعة، فإن زواج الأقارب يجعل المرء يغرق في بيئته الأولى مجدداً. هنا يُطرح السؤال: لماذا لا يزال عدد كبير من الشبان والشابات يهربون إلى أحضان العائلة الصغيرة؟

حلا ماضي
أنهى سامي دراساته العليا في مجالي الاتصالات والمعلوماتية، وبعد سنوات من التنقل في جامعات فرنسا والتعرف على أجواء متنوعة ومختلفة، عاد إلى لبنان ليستقر فيه «مهنياً واجتماعياً»، حصل على وظيفة في مؤسسة رسمية، واختار الزواج من ابنة عمه بناءً على اقتراح الأهل، رغم الاختلاف الكبير في المستوى التعليمي بينهما.
عاش الزوجان في قريتهما الجبلية، وبعد أشهر قليلة، نُقل سامي إلى أحد فروع المؤسسة في العاصمة بيروت، في إطار ترقيته المهنية، لكنه رفض ذلك التغيير الطارئ على حياته، فتنقل من مسؤول إلى آخر للتوسط لديهم كي يعيدوه إلى مركز العمل قرب بلدته حيث يحتسي فنجان القهوة مع أهله كل صباح... وكان له ما أراد.
ريما امرأة ثلاثينية، لا تُخفي ما يجول في داخلها من رغبة مكبوتة منذ فترة، بإقامة علاقة جنسية مع أحد أصدقائها في الجامعة حيث كانت تدرس، إلا أنها تستدرك هذا الكلام للحديث عن معاناتها مع ابن عمها الذي تزوجته بناءً على نصيحة والدتها، فهو بعدما «عمل في أوروبا وشاهد انفتاح الفتيات والحرية المعطاة لهن، يقدّر التربية المحافظة»، وريما لا تزال تذكر كلمات والدها، بأن ابن عمها «سيحترمها ويحافظ عليها أكثر من الغرباء».
ريما وابن عمها رزقا بابنهما البكر كريم الذي يتمتع بصحة جيدة، لكن أولادهما الآخرين كانوا مصابين بشلل دماغي كلي وماتوا قبل بلوغ العام الأول. وقد أمر الأطباء الأم بالتوقف عن الحمل، إذ تأكدوا أن صلة القربى بين الزوجين هي السبب في ما يصيب أولادهما، فكل منهما يحمل سمة المرض.
يمكن التعرّف إلى تجارب ناجحة في إطار زواج الأقارب، لكنها حالات استثنائية، ولا بد من طرح تساؤلات عن الأسباب والدوافع التي تقف وراء اختيار هذا النوع من الزيجات، وعن نتائجها الاجتماعية والصحية.
تشير الأستاذة في كلية التربية في الجامعة اللبنانية سمر الزغبي إلى دوافع ذات أساس عائلي تطورت مع الفرد أثناء نموّه واختلاطه مع المجتمعات الأخرى، فيمثّل التأثر بعادات الأسرة التي رسمت فكرة الزواج من قريب في «رأس» المرء أمراً أساسياً، وخاصة بعد أن يشاهد هذا الفرد سلوك الفتيات الأجنبيات، هكذا يعود إلى الانضمام إلى عائلته، بحثاً عن الاستقرار وترسيخاً لمفاهيمه الشرقية، وخاصة إذا كان صاحب شخصية ميالة إلى الانطواء والتقوقع داخل بيئة معينة، فهو قد ينجح في مجاله العلمي البحت، ولكنه يعجز عن الاختلاط والتعامل مع أشخاص ذوي صفات مختلفة كالشخصيات القوية والمنفتحة، وتلفت الزغبي أيضاً إلى سعي الرجل إلى «الاحتفاظ بالعذرية العاطفية الفطرية» عند قريباته.
تتحدث الزغبي عن دوافع «مستجدة» تدفع البعض إلى التقوقع في بيئاتهم الأولى، وهي دوافع ناتجة من «العولمة الإنسانية» أو اتساع هامش التعارف بين مختلف المجتمعات الأوروبية والعربية، إضافة إلى حرية التصرف على كل المستويات، ما يجعل المرء عاجزاً عن تحديد المعايير في اختيار الشريك. من المفترض أن يمثّل الزواج انطلاقة جديدة للزوجين على مختلف المستويات، ويفتح لكل منهما آفاق التعرف على عادات الشريك وبيئته، لكن المقترنين في«الزواج العائلي» سرعان ما يجدون أنفسهم في المحور عينه، ويتدخل أقاربهم والحماة لحل مشاكلهم كما يتدخلون في كل شؤونهم.
تلفت الزغبي إلى أن التنوع والانفتاح على بيئات وثقافات جديدة، أمر يبدأ من «العائلة»، وبالتالي فإن «البيئة الصغيرة» تزيد من انغلاق الأطفال داخل مجتمعهم، وتزيد مخاوفهم من الاختلاط، وهنا تجدر الإشارة إلى حالات الخجل لدى بعض الأطفال كنتيجة لهذا التقوقع والانطواء داخل الأسرة الواحدة، ويزداد الأمر سوءاً إذا كانت تلك العائلة تعيش في الريف، نظراً لمحدودية «الأسر والأمكنة»، ما يمثّل خطراً اجتماعياً ونفسياً على مستقبل الأطفال، فهم رغم اختلاطهم في المدرسة مع أطفال من بيئات متنوعة، إلا أنهم سرعان ما يعودون «مهرولين» إلى منزلهم وبيئتهم الصغيرة كي لا يشعروا بالغربة».
الطبيبة النسائية والمحللة النفسية سهى بيطار أكدت أن هذا النوع من الزواج يزيد من إمكان تسهيل سفاح القربى استناداً إلى عدد كبير من الدراسات العلمية والطبية التي أجريت أخيراً في هذا الإطار، فعندما تكون الأم ابنة خالة الأب، والحماة هي الخالة، والعم هو الخال والخالة عمة، تختلط المسؤوليات المنوطة بكل فرد، فلا يفهم الولد قرب الأشخاص منه أو بُعدهم عنه، ولا يعرف بالتالي تحديد الأقارب.
تشير بيطار إلى أن «الأولاد ليسوا لنا، هم للدنيا الواسعة فلماذا نفرض عليهم تمنياتنا وأفكارنا، هذا يعتبر تعدياً على رأي الطفل الذي لا يزال في مرحلة عدم امتلاك القرار»، في هذه المرحلة على الأهل توجيه اهتمامه وطاقاته نحو أمور رياضية وفكرية وأدبية حتى يبلغ الولد مرحلة النضوج، فيستطيع عندها التمييز واختيار الشريك.


أمراض وراثية

تتساءل بيطار، لماذا نوقظ «الشخص النائم داخل الطفل قبل أوانه» ونقوده بالتالي إلى مرحلة الانشغال بأمور جنسية وعاطفية. أما بالنسبة للأمراض الناتجة من زواج الأقارب، فتشير بيطار إلى أنه مع الأجيال، وإذا استمر التزاوج بين الأقارب، فلا شكّ بأن الأمراض والمشاكل العائلية ستزداد بدرجات، وخاصة إذا كان الطرفان يحملان سمة المرض ذاته كالتخلف العقلي لدى وجود أي خلل جيني بالعائلة، واحتمال الإصابة بالعمى والطرش، إضافة إلى الأمراض الوراثية كأمراض القلب والعيون الخلقية، والحمل والولادة في سن مبكرة، إضافة إلى مرض تكسر الكريات الحمراء الوراثي والشلل الدماغي. بكل مستوياته (نصفي أو كلي). أو إصابة الكلية بكسل يؤدي إلى الفشل الكلوي