«كيف يُدار الدين العام في ظلّ أزمة ماليّة عالميّة؟» هو عنوان محاضرة ألقاها الخبير الاقتصادي الدكتور شربل نحاس بدعوة من نادي روتاري ــ بيروت في فندق البريستول في 12 كانون الثاني 2009. هنا نصّ المحاضرة:
شربل نحاس
إذا كانت العلاقة بين الدين العام اللبناني والأزمة المالية العالمية تفرض نفسها طبيعياً، فإن الحدث الآخر الطاغي، وهو العدوان الإسرائيلي على غزة، يمثّل فرصة أيضاً لتوصيف مسألة تراكم الدين العام. فالدين بطبيعته ظاهرة تراكمية، وما دام يتراكم، فهو يشير إلى القدرة على العيش مع العجز، أي إلى إنفاق يفوق المداخيل، وهذا الوضع ملائم جداً لأي كان. لكن المشكلة أن الدين، في لحظة من اللحظات، يبلغ مستويات تصعب إدارته، وعندها يندر من يتجرّأ على الخروج عن المواقف والمواقع، التي أغرق نفسه وغالبية المجتمع فيها، ما يؤدّي إلى انفجارات عنيفة.
هذا تماماً ما يجري على الساحة الفلسطينية بعد انسداد المخارج المنطقية، وهذا ما حدث على امتداد فترة طويلة في إدارة الشؤون المالية الدولية مع تأجيل ألان غرينسبان (أزمة صغيرة وراء أزمة صغيرة) موعد استحقاق الإصلاحات الأساسية في الاقتصاد وفي الميزانيات، إلى لحظة تحوّل فيها هذا التراكم إلى أزمة مفتوحة.
وهذا ما لم يحدث بعدُ في لبنان. وإن عدنا إلى القاعدة العامة، فلا بد من الإقرار بأن المشاكل كلما أمكن تأجيلها، كلما تناساها الناس، حتى يعود تراكمُها فيفرض الانتباه إليها مجدداً، ولكن عندها قلّما نجد من يجرؤ على مواجهتها.
ثمّة أفكار بسيطة، صحيحة جزئيّاً (وأقول جزئياً لأشدّد على خطر تحولها إلى عقائد تبسيطية) لا بد من ذكرها، مع التنبيه إلى حدود صلاحيتها:
ــ حساب الدين: للدين دينامية خاصة تُسمّى حلقة المديونية، إذ يُضاف عجز كل سنة إلى دين السنة السابقة، فيزيد رصيده ولكنه يزيد أيضاً خدمة فوائده، وبالتالي يرتفع عجز السنة التالية، وهكذا دواليك... من عجز إلى دين، ومن دين إلى عجز، إنها فعلاً ظاهرة تراكمية... والواقع أن التراكم قد يُسرَّع، إذ تكبر مخاطر المَدين مع ازدياد الدين، فتصبح معدلات الفائدة أثقل.
ــ مصادر الدين ومخارجه: الدين لا ينتج فقط من العجوزات، بل ينتج أيضاً، وبجزء لا يُستهان به، من السياسات النقدية، لأن المصارف المركزية أيضاً تستدين لكي تنشئ لنفسها احتياطات أو لتعقّم كتلة نقدية فائضة... ومن جهة ثانية، ثمة أنواع من العجوزات لا تُترجَم بدين، أقله ليس بدين مرئي، مثل المتأخّرات التي تُعتبر ديوناً قهرية. وثمة متأخّرات أيضاً تُخبَّأ، وعجوزات يُتستّر عليها بأشكال مختلفة، كخسائر مؤسسات عامة مثلاً التي يجري التغطية عليها بتمويلات من البنك المركزي أو المصارف العامة أو حتى الخاصة فلا تبدو ديوناً عامة...
الواقع إذاً أكثر تعقيداً ممّا قد تفترضه الآلية البسيطة أو حساب تراكم الدين، ولا بدّ من الإشارة أيضاً إلى أن الدين لا يُسدَّد فقط بالفوائض. وعلى أيّ حال، قليلة هي الديون العامة التي سُدّدت من خلال الفوائض عبر التاريخ، فالدين عموماً يُسدَّد من خلال التضخم أو لا يُسدَّد، ولكن عندما يتسارع النموّ، ينخفض عبؤه نسبة إلى الناتج، فيصبح من الممكن احتماله، والأمثلة عن دول سدّدت ديونها فعلياً، نادرة جداً.
ــ استثمار وخصخصة: الدين لا يقدّم إلا صورة جزئية عن وضع المالية العامة، فالدولة تملك ميزانية، مثل أي شركة أو كيان، وتضم مالية الدولة مجموعة كبيرة من الأصول، وتشمل خصومها الدين، لكن يمكن أن تتضمن أيضاً التزامات أخرى ليست مباشرة، ولا تفرض الأعراف المحاسبية أن تُسجَّل بوصفها ديوناً. يعني ذلك أمرَين: أولاً، عندما تستدين الدولة لكي تستثمر بشكل ذكي، تزيد خصومها، ولكنها تزيد بالكمية ذاتها أصولها، وبالتالي، لا تجد نفسها في وضع أسوأ من الذي كانت عليه من قبل، بل على العكس. وبشكل تماثلي، يعني ذلك أن وضع الدولة الاقتصادي لا يُحسَّن بتطبيق الخصخصة، لأنه من خلال بيع أصول، بأسعارها الصحيحة طبعاً، لا تزداد الدولة غنى ولا فقراً، بل تبقى عند النقطة ذاتها من وجهة نظر ميزانيتها الإجمالية.

الدين العام: طبيعته وآثاره

خصوصيات الدولة كمَدِين: هناك نزعة عفوية لدى الناس إلى مقارنة الدين العام بديونهم الخاصة، غير أن الدولة كائن اقتصادي شديد الخصوصية، وما يميّزها:
ــ أنها أبدية: يُفترض بالدولة أوّلاً أن تكون أبدية، وما من موعد نهائي مبدئي لاستحقاق الدين المتوجب عليها، فالأمر مختلف عن القروض ذات المدد المحددة؛ ولا يمكن مقارنة دين الدولة بوضع أسرة يجب أن تسدّد دينها خلال فترة نشاط أعضائها، أو بوضع مشروع أو شركة مدتهما محدودة... وبالتالي، فإن مفهوم ملاءة الدولة وقدرتها على الوفاء بديونها إشكالي إلى حد ما... وتُقاس ملاءة الدولة عموماً، بطريقة شمولية، بالقول إن الاستدانة الصافية يجب ألا تتجاوز القيمة الحالية للفوائض المستقبلية المحتملة. لكن هذا التحديد، المقبول تماماً على المستوى النظري، ليس عملياً جداً لسوء الحظ، لأنه لا يدلّنا إلى كيفية قياس التدفق اللامتناهي للفوائض المستقبلية، ولا يرشدنا إلى كيفية تحديد معدّل الحسم على هذه الفوائض تحديداً جيّداً. فيُكتفى إذاً، بشكل أقل دقّة، بقواعد تقريبية وتجريبية، بالقول إنه يمكن احتمال دينٍ ما إذا لم يتجاوز العبء الذي يرتّبه على الاقتصاد حدّاً أعلى، مهما كان هذا الحد. هكذا اعتمدت معاهدة ماستريخت نسبة 60% من الناتج المحلي الإجمالي، ويعتقد عدد من الاقتصاديين أنه يمكن رفع هذا الحد بعض الشيء. على أي حال، بلغنا في لبنان مستويات أعلى بكثير من ذلك.
ـــ أنها صاحبة سيادة: الميزة الثانية للدولة هي أنها صاحبة سيادة، فالمؤسسة أو الأسرة يجب أن تعتمد على فائض في السيولة لكي تستطيع تسديد دينها. يمكن أن تحصل الدولة على عائدات من ممتلكاتها، فتلك حالة الدول النفطية، ولكن هذا المورد ثانوي تماماً في العموم، إذ إن الدول الحديثة تعتمد أساساً على إيرادات الضريبة، والدولة تستطيع نظرياً فرض المزيد من الضرائب. إذاً تتمثل السيادة أوّلاً بالقدرة على فرض اقتطاعات إجبارية. ثم إن الدولة صاحبة سيادة لكونها تتمتع بالقدرة على خلق النقد، وبوسعها أن تخلق النقد وأن تدفع بالنقود التي تخلقها، شريطة ألا تقع في «الدوْلَرَة». نفعل ذلك بانتظام في لبنان، ويُعتبر التضخّم هو الحدّ في ممارسة خلق النقد. ولكن التضخم أيضاً نوع من الضريبة، وهي ضريبة قاسية للغاية أحياناً، فالعجوزات التي اضطرت الدولة إلى تحمّلها في الثمانينيات من القرن الماضي، مع سيطرة المليشيات على الأراضي والمؤسسات العامة، موّلها التضخّم بكاملها، وكانت العاقبة أن قُضي على قسم كبير من مدّخرات الأسر اللبنانية. وتستطيع الدولة أخيراً أن تردّ الدين عبر نقضه والامتناع عنه، ولا يمكن حجز أملاك الدولة، على الأقل ما لم تنص شروط إصدار الدين على بنود تتيح هذه الإمكانية عبر اللجوء إلى سلطات قضائية أجنبية، وهو ما جرى عندما حُجز على طائرات تابعة لطيران الشرق الأوسط وعلى ناتج إصدارات سندات للدولة، على أثر دعوى رُفعت أمام محاكم نيويورك.
ــ أنها شفّافة: فالدولة لا تتحمّل الدين فعلياً، بل الاقتصاد هو الذي يتحمّله. والاستدانة العامة هي استدانة الاقتصاد، تديرها الدولة التي ليست إلا ناقل الحركة بين الدائنين والاقتصاد المدين.
يقود ذلك إلى مفارقات يجب توضيحها:
ــ دين داخلي يُفقر ويُغني في آنٍ معاً: إنّ أيّ دين عام، عندما يملك عملاء داخليّون جزءاً كبيراً منه، يكون في آنٍ واحد عبئاً على المدين، وثروة للدائن، هذه حال الدين العام اللبناني الذي تملك 90% منه المؤسسات والأسر اللبنانية بطرق مباشرة أو غير مباشرة. وغالباً ما نسمع اللبنانيين يقولون: «لدينا دين عام كارثي، ولكن لحسن الحظ لدينا مصارف تملك إيداعات كبيرة». وفي معظم الأحيان لا نقيم صلة بين الإيداعات والدين، فيما عملياً، وباستثناء بعض الفروقات الطفيفة، الأمر سيان، وهكذا فإن الدين العام الداخلي هو ظاهرة غريبة للغاية، لأنه يمثل غنىً وحاجة في الوقت ذاته.
ــ هل هو مشكلة أم حلّ؟ أم حلّ مستساغ جداً؟: يُقدَّم الدين عموماً على أنه مشكلة، وهذا موقف غير عادل، لأن الدين هو حلّ في المرتبة الأولى، وهو حلّ سهل، يقوم على القدرة على الإنفاق من دون الاضطرار إلى مواجهة صعوبات تحصيل الأموال وتعبئة الموارد... المشكلة تتأتّى فقط من التراكم، ولكن هذه المشكلة، بطبيعتها، مؤجلة إلى مرحلة لاحقة، فالتمكن من الحصول على دين بهذا الحجم الكبير يعني أوّلاً أن اللجوء إلى الدين بوصفه حلاً قد سهّلته ظروف خاصة، ولم يحصل بالضرورة بنتيجة خطة مكيافيلية، وبالتالي، فإن توافر الشروط التي تسهّل الاستدانة وإدارة الدين حجة لجعل الدين يتراكم وليس دافعاً للخروج منه.
ـــــ هل هو قائم بذاته أم محكوم بدور وظيفي يتخطاه ويطوّعه؟: يحق لنا التساؤل عن طبيعة الدين اللبناني بما يتمتع به من خصائص: دين يتخطى كل المعايير لناحية مستوياته، دين داخلي بكامله تقريباً، وأخيراً دين كان من السهل إعادة تمويله، باستثناء بعض المفاصل المحددة.
فهل هذا الدين ظاهرة عرضية وخارجية المنشأ، مردّها أسباب محددة (إعادة الإعمار، بعض السرقات، شراء تواطؤات سياسية، سياسة نقدية معينة، أو أسباب أخرى...)؟ إذا كانت هذه هي الحال، بشرط ألا تكون الظروف التي ولّدته محكومة بالتجدّد، فإن معالجته ممكنة جداً... ولكن ما العمل إذا لم تكن أسباب الدين خارجية المنشأ ولا عرضية، بل كان الدين المؤشِّر والدالّ، بل المحرّك الأهم لقيام نظام اقتصادي سياسي معيّن واستمراره؟ أزعم أن الدين اللبناني ينتمي إلى هذ الفئة لا إلى الأولى.

الدين العام كمحرّك للنظام

يتميز تراكم الدين العام في لبنان بانتظامه اللافت، فهو يزداد بمعدل 4500 مليار إلى 5000 مليار ليرة سنوياً، هذا الانتظام قد لا يبدو دائماً بهذا الوضوح، لأننا في لبنان، كما في دول مديونة أخرى، قد تعلّمنا أن نخبّئ الدين، وأن نتلاعب بأرقامه. تتطابق هذه الزيادة السنوية الوسطية بدقة مع العجز السنوي الوسطي في حسابات لبنان الخارجية عند مستوى رصيد العمليات الجارية، أي رصيد مبادلات لبنان مع الخارج من السلع والخدمات وعوائد عناصر الإنتاج من عمالة ورساميل (وثمة خبراء يسعون جاهدين إلى التلاعب بهذا المؤشر أيضاً، ولكن حل الرموز سهل على هذا المستوى)... كما تتطابق الزيادة، وبدقة أيضاً، مع صافي التدفق في ميزان رؤوس الأموال، ما يجعل الرصيد النهائي لميزان المدفوعات لدينا متوازناً على العموم.
كما لو أن في الأمر «معجزة»، فعندما نتلقّى حوالى 3 أو 4 مليارات دولار من رؤوس الأموال، يزداد ديننا العام عملياً بالرقم نفسه، وتزيد مستورداتنا على صادراتنا من السلع والخدمات بهذا المبلغ نفسه! صحيح أن هذه أو تلك من الكميات الثلاث قد تختلف عن الاثنتين الأخريين في سنوات معينة، فيُلاحَظ حصول فائض صغير هنا وتسارع طفيف هناك، أو عجز صغير هنا وتباطؤ طفيف هناك، لا سيّما تحت تأثير تغيّرات أسعار النفط والمداخيل المرتبطة به، ولكن القاعدة ثابتة بشكل لا يمكن دحضه، ويُحافظ على التوازن على امتداد الوقت بشكل «عجائبي»، فإما أن نؤمن بهذه «المعجزة» المستمرة، وإما علينا أن نعترف بكل بساطة بأن الدين العام هو ناقل الحركة الضروري الذي يمكّننا من استخدام قدرتنا على جذب رؤوس الأموال لتمويل إفراطنا بالاستهلاك، وبدرجة أقل، الاستثمارات الداخلية... وإلا، لكانت رؤوس الأموال الوافدة، ينحصر تأثيرها فقط، بفعل تركّزها الشديد، على زيادة الذمم المالية لبضع مئات من العائلات الوافرة الغنى، وهي، مهما بلغ إسرافها، لا تستطيع أن تنفق منها في الداخل إلا جزءاً يسيراً، فيُعاد توظيف الباقي في الخارج عبر النظام المصرفي، وعندها لن نرى لهذه الرساميل تأثيراً عملياً علىالاقتصاد، أو الاستهلاك ومختلف النشاطات المتعلقة به، أو الواردات، ولن يُسجَّل عجز في عملياتنا الجارية مع الخارج... ولكن كل ذلك لا يحدث فعلياً، بل تُحوّل رؤوس المال من وضعها كودائع مركّزة لتصبح مداخيل موزّعة، ومَن في موقع أفضل من الدولة لتأدية هذه الخدمة، وهي تؤديها جيداً.
أمام وضع كهذا، لا مجال للكلام على الدين كما لو كان ظاهرة منعزلة ، فهو يمثّل الصورة المميِّزة للنظام الاقتصادي. ولكن، على الرغم من ذلك، فهو لا يُتابَع باهتمام ثابت، لا بل على العكس، فالاهتمام الذي يثيره متقطّع وعرضيّ ومتفاوت زمنياً. وهكذا، ظلّ الدين يتراكم طوال عقد التسعينيات، وكان الناس، من اليمين واليسار (وحتى زيارة وولفنسن للحريري في شباط 2002) يُتّهمون بأنهم «نذير شؤم»، في كل مرّة يحذّرون فيها من أن تراكم الدين ظاهرة خطيرة ويجب مجابهتها، والسبب أن أذهان اللبنانيين كانت مسكونة بهاجس استقرار سعر الصرف (وهو كان مستقراً بسبب توسع الدين العام بالعملات الأجنبية)، وعندمابدأوا يقلقون من الدين، كانت المشكلة قد تخطت إمكانات المعالجة الناجزة، وراح السياسيون يتراشقون الاتهامات، ويتنافسون على إيجاد الحلول، بين مَن يريد خفض الضرائب ومَن يودّ زيادتها، وغالباً ما كان الأشخاص أنفسهم يطلقون الخطاب الأول والثاني بفارق أسابيع، إلى أن أتت مساعدة خارجية دفعت باتجاه تأجيل المسألة... ومنذ ذلك الحين، عزّز ارتفاع أسعار النفط تدفّقات رؤوس الأموال، وازدادت قدرات إعادة التمويل ولم يعد أحد يتكلم عن الدين الذي يستمر بالتراكم.

طرائق إدارة المخاطر

يمثّل الدين إذاً آلية وظيفية للنظام المجتمعي، كما يمثّل إحدى أبرز طرائق الإدارة والضبط في المجتمع. فالمستقبل يتكوّن دوماً من شكوك ومخاطر وطموحات ومخاوف، ولمواجهتها يمكن التعرّف على فئتين كبيرتين من أنماط الإدارة: إما السعي إلى تعديل حجم تأثير هذه المخاطر (التراتبية أو التشاركية)، وإمّا السعي إلى ترتيب مكان تأثيرها أو زمانه.
ــ التراتبية: أي نحدد فئات تكون أقل تعرضاً للمخاطر وأخرى أكثر تعرضاً لها، عبر منح امتيازات أو مكاسب مادية ورمزية مقابل التعرض الأكبر، وتمتاز هذه المقاربة بأنها تعزز صلابة البنى الاجتماعية والمهنية والقانونية، ولكنها تفرض ثمناً مقابلاً يتمثل بجعل مَن ينالون امتيازات أقل يقبلون بالتراتبية المفترضة.
فعلى المستوى السياسي، ثمة تراتبية في المواقع، تأسست خلال حقبة الهيمنة السورية، وتعدلت في سياق فوضى واضحة منذ 2005، وهي تتمثل بإمكان الوصول إلى السلطة، وإلى وسائل الإعلام والخ... وعلى المستوى المالي هناك تراتبية شائعة في القطاع الخاص مع الضمانات والرهونات العقارية، وهي طرائق لتنظيم المخاطر تراتبياً، وهي تحصل في مجال المالية العامة عندما يدور الكلام عن «الدين السوقي» مقابل الدين الباقي، وعندما يُصوّت على قانون مجحف يعطي الأولوية في استخدام الإيرادات المستقبلية المتأتية من عمليات الخصخصة لدفع فوائد الدين العام على حساب كل المتوجبات الأخرى المستحقة على الخزينة، يرتسم تنظيم تراتبي يميز الدائنين عن سائر المواطنين المستفيدين من الخدمات العامة، كما تفرض الحكومة تنظيماً تراتبياً عندما تُراكِم المتأخرات، ثم تعيد جدولتها من دون فوائد، فيما تدفع لمالكي سندات الدين حتى آخر فلس.
تؤدي التراتبية إلى نشوء تضامن قوي بين مختلف المجموعات التي تتمتع بامتيازات، وتصبح، كلها معاً، رهينة النظام التراتبي. وإذ تزداد المجموعة صلابة تزداد هشاشتها أيضاً.
ــ تشارك المخاطر: هذا التشارك يُشعر الناس بالأمان، فبسبب قانون الأعداد الكبيرة، يتقلص مدى المخاطر التي يشعر كل فرد بأنه معرّض لها. إنها القاعدة الأساسية في التأمينات وصناديق التعاضد، والضمان الاجتماعي... ولكنها أيضاً قاعدة الخدمة العسكرية مقابل أنظمة المحاربين المحترفين، وهي خاصة المبدأ الأساسي بالنسبة إلى الضريبة، لكون وارداتها تخصَّص لمجموع إنفاقات الدولة لا لإنفاق معين. وفق هذه المقاربة، حاول المصرفيون الأميركيون ثم الأوروبيون، منذ اللحظة التي نجحوا في انتزاع الاعتراف بأن الأزمة هي صدمة عمومية وليست نتيجة طريقة إدارة محددة، أن يحمّلوا المكلفين الثغرات المتراكمة في إدارتهم والميزات الممنوحة إلى مدرائهم وشركائهم... ولكن هنا أيضاً لنظام الإدارة حدوده لأننا نجد دوماً أولئك الذين يرفضون أن يدفعوا عن الآخرين، إمّا لأنهم يعتبرون هؤلاء «الآخرين» مسؤولين عن مآسيهم، أو لأنهم يعتقدون أن الدولة ليست أفضل منهم في تمثيل المجموعة.
إن إدارة هاتين التقنيتين ليست بالعملية البسيطة. لهذا ثمة فئة أخرى من طرائق الإدارة تفرض نفسها على «السياسيين»، وهي لا تقوم على إدارة مدى تأثير المخاطر، بل تركّز على مكان التأثير وزمانه، فإما أن يُعدّل اتجاهها جانبياً، جغرافياً أو اجتماعياً، أو تُؤجّل إلى مراحل لاحقة:
ــ مكان التأثير: يعني تعديل اتجاه المخاطر، بتعبير عملي، الفصل والبتر وحتى الهدم، إذ يُحمّل كامل الضرر أو معظمه إلى جزء من المجتمع أو البلاد أو الاقتصاد لإنقاذ الجزء الآخر، هذا كان موقف ديغول عندما تخلى عن الجزائر لإنقاذ الجيش ومؤسسات الجمهورية في فرنسا... وهذا موقف لبنانيي هذه المنطقة أو تلك الذين لا يعيرون أي اهتمام للأضرار التي تتحملها «منطقة أخرى». بتعابير مالية، إنها التقنيات المختلفة المتعلقة بالمصادرة والاحتكار، أو، بشكل تماثلي، بنقض الالتزامات انتقائياً.
ــ زمان التأثير: إذا اتجه السعي ليس إلى حصر مساحة الخطر بل إلى تأجيله، يصبح الدين تقنية مرجعية. فالدين من هذا المنظار نهج تعتمده الإدارة السياسية لتلافي المخاطر والفوضى. وفي هذا المجال، يُدفع ثمن مقابل الإنجاز المرغوب، فالوقت لا يُكسَب، بل يُشرى. وتأجيل العجز يعظّمه، والفائدة هي ثمن الوقت.
السؤال الحقيقي هو الآتي: كم يكلّفنا جعل الدين يستمر؟ فالوقت الذي يُشرى له ثمن، ويجب أن يُستفاد من هذا الثمن المدفوع. من الجائز اعتبار أن الأميركيين قد استخدموا الوقت المُشترى خلال عقد التسعينيات لكي يعززوا موقعَيهم الاستراتيجي والسياسي، وينطلقوا في مجموعة من المغامرات المؤسفة، ومنها مغامرة العراق.
في لبنان، السؤال المطروح هو الآتي: كيف استخدمنا الوقت الذي اشتريناه بثمن باهظ؟ إذا كنا قد استخدمناه فقط لتمويل الاستهلاك، ولم يبقَ منه إلا قيم هالكة، فهذا ما لا يمكن تبريره لا اقتصادياً ولا محاسبياً. انطلاقاً من هنا، لا يصح أن يبقى مفهوم الأزمة محصوراً بفكرة كارثة تحصل أو تؤجّل بفضل مواهب هذا أو معجزات ذاك. ليست «إدارة الأزمة» إلا نمطاً من الأنماط الأساسية لإدارة المخاطر، تلك التي تعتمد على إدارة الوقت. وقوامها تأجيل صعوبة اليوم إلى الغد، مع العلم بأن تعظيم حجم الصعوبة هو ثمن التأجيل. إنه الثمن الطبيعي الذي يترتب على هذه التقنية.

الخيارات المطروحة في لبنان

نجد أنفسنا اليوم أمام عدد معيّن من الخيارات الممكنة. لا يتعلّق الأمر بخيارات تقنية، لأن الدين ليس ظاهرة معزولة، بل بخيارات استراتيجية: أي نمط لإدارة الدولة؟ أي نموذج مجتمعي نراه ملائماً لبلدنا؟ فإبقاء الدين وإبقاء نمط الإدارة من خلال الوقت يفرضان الحرص على هذه الدينامية المالية والسهر على إبقائها، وزيادة الفوائض الأولية، أي زيادة الضغط الضريبي، والحدّ من قدرات الدولة على تأدية الخدمات التي يتوقعها منها المواطنون، وهذا يعني إفقاد الدولة مصداقيتها أكثر فأكثر بالنسبة إليهم. ويعني أيضاً تحفيزهم على الهجرة ودفعهم للالتجاء إلى كنف البنى البديلة عن الدولة، لأنه من دون هجرة متواصلة، يجف تدفق رؤوس الأموال التي تدخل إلى البلد، ومن دون البنى البديلة عن الدولة، سرعان ما يتحول تراجع القدرة على الإحاطة بالسكان الهامشيين عبر حلقات الزبائنية إلى مصدر للمشاكل.
إذا كان هذا النمط من الدولة ومن المجتمع جيداً ويوافق ما نرغب فيه، عندها تكون الطرائق المطبقة حتى يومنا هذا، على المستوى التقني، مقبولة. إذا لم يكن هذا هو النمط الذي نرغب فيه، فيجب التجرؤ على سلوك أقرب منعطف للخروج منه، هذا هو الخيار الاستراتيجي.
ثم تأتي الخيارات التقنية، وهي ليست ببسيطة، فنحن في حالة تحدق بها المخاطر، ويجب بالتالي مراعاة اعتبارَيْ الأهمية والإلحاحية في الوقت نفسه، المهمّ أن يجري تدبر الانعطاف جيداً، وهذا فن القيادة؛ والملحّ ألا ننزلق على الطريق، وهذا متوقف على التصاق العجلات بالأرض، يجب التفكير في الاثنين معاً، بشكل متواصل، ينبغي أن يوفِّق كل عمل بين الأهمية والإلحاحية، باستعمال كل المعطيات المتوافرة والطارئة بشكل انتهازي، وهو أمر مشروع تماماً. من بين هذه المعطيات، بعضها مؤات اليوم ظرفياً، أولاً انخفض سعر النفط، وهذا تطور ممتاز بالنسبة إلى لبنان، إذ يعني كلفة طاقة أقل، وقدراً أقل من العجز العام وتراكم الديون، وسهولة أقل في اجتذاب التمويلات من الخارج للإبقاء على النظام، وإمكانات أقل لسفر الشباب، وخصوصاً أننا ما زلنا نحتفظ بكمية من السيولة بنتيجة الصدمة النفطية السابقة. هذه الفرجة قيّمة بشكل خاص إذاً، لا لكي نعلن أننا أفلتنا من الأزمة العالمية بفضل مواهبنا، بل لاستخدامها من أجل تدبّر أمر الانعطاف بشكل أفضل.
أمّا لجهة خيارات التوجه، فما نحتاج إليه هو زيادة نوعية في الاستثمار الداخلي، لنتمكن من أن نمتص المتخرجين الشباب الذين ننتجهم منهجياً للتصدير، ولنعيد المصداقية والشرعية للدولة، لأن من المهم حتماً أن نمتلك دولة، ودولة مقتدرة.
أما من ناحية مخاطر الانزلاقات، فثمة مجموعة من الإجراءات التقنية تطال القطاع المالي، إذ سيكون من الحكمة أن تُعزَّز، كثيراً، رؤوس أموال المصارف واحتياطياتها العامة غير المخصصة، وأن يدعّم نظام ضمان الودائع... ولكن يجب أيضاً أن تتولى الدولة مباشرة نظام تغطية المرض وتأمين الشيخوخة للفئات الأضعف بين السكان، وألا تترك هذه الأمور لجمعيات أو مجموعات طائفية، خيرية أو مليشياوية...
هذا ممكن إلى حد معقول، بسبب الفرجة التي وجدنا أنفسنا فيها: المطلوب إدارة مزدوجة السرعة، إدارة للأهمية وإدارة للإلحاحية.
(ترجمة جورجيت فرشخ فرنجية)