في كلّ مرة تُثار فيها قضية العاملات الأجنبيات في لبنان تكون ظروف العمل السيئة التي تحيط بغالبيتهن هي المحور، فيما يعبّر اللبنانيون والعاملون على حد سواء عن ضرر مادي يلحق بهم في ظل غياب أي قانون يضمن حقوق الطرفين
مهى زراقط
يتصلّ معدّ أحد البرامج التلفزيونية الناجحة بصاحب مكتب استقدام عاملات أجنبيات، ويطلب إليه المساعدة. «بكلّ سرور»، يقول الرجل ويستمع منه إلى الخدمة المطلوبة: «نعدّ حلقة عن العاملات الأجنبيات، وأريد منك أن تدلّني على فتاة تعرّضت للاعتداء الجنسي من ربّ عملها وتبدو عليها آثار الضرب». يعتذر الرجل: «لم تتعرّض أيّ من العاملات اللواتي استقدمتهن لهذه المشكلة». لا يصدّقه المعدّ: «معقول؟ أرجوك ساعدني»، «أؤكد لك أني لا أعرف فتاة تعرضت لما تحكي عنه، هل أخترع لك واحدة؟» يجيبه.
بهذه القصة يستهلّ صاحب مكتب استقدام عاملات أجنبيات حديثه، في محاولة لسدّ الباب على الحديث المتزايد عن المعاملة السيّئة التي تتعرض لها عاملات الخدمة المنزلية في لبنان. «أساؤوا إلى سمعة لبنان بسبب حالات معدودة على الأيدي»، يقول. يشاركه رأيه عدد من أصحاب المكاتب الذين كانوا مدعوّين إلى اجتماع في مكتب زميلهم رئيس نقابة أصحاب مكاتب الاستخدام في لبنان علي الأمين لمناقشة شؤون تتعلق بنقابتهم. وجود صحافي في المكان يفتح المجال أمامهم ليسردوا قصصاً عن المشاكل الدائمة بين العاملات الأجنبيات وأرباب عملهنّ. نحكي هنا عن مشاكل يومية، ليست بخطورة ما تعوّدنا سماعه من اعتداءات جنسية وضرب وسوء معاملة. يعددون مثلاً شكاوى العاملات من التأخير في دفع الراتب، العمل المتواصل من دون راحة، العمل في أكثر من منزل، عدم تحديد طبيعة العمل: تنظيف أو تربية أولاد، إلخ.
في المقابل، يشكو اللبنانيون أيضاً من العاملات اللواتي يقررن عدم الاستمرار في العمل، أو اللواتي يهربن لكي يعملن على حسابهنّ. تروي سيدة كانت موجودة في المكتب قصة عن ربّ عمل اضطر إلى تسفير الفتاة التي كانت تعمل لديه لمجرد أنها لم تعد ترغب في العمل: «خاف أن تؤذي نفسها إذا أجبرها على البقاء، خسر كل ما دفعه سلفاً، إضافةً إلى تذكرة الطائرة». وهذا ما يدفع إلى طرح السؤال «عمّن يُعيد إلى ربّ العمل الأموال التي دفعها إذا أصرّت الفتاة على عدم العمل؟ وخصوصاً أن الأمن العام يفرض على الكفيل تسفيرها؟».
نقاش مماثل، نستمع إليه في أحد مآوي «كاريتاس»، الذي يرعى أوضاع عاملات أجنبيات يعانين مشاكل خاصة. هناك نجالس ثلاث سريلانكيات، لن نذكر أسماءهن بناءً على تعهد وقّعناه في المؤسسة. هنّ يُدرن المأوى الذي يهتم حالياً بعشرين سيدة من التابعيات الإثيوبية، البنغلادشية، النيبالية. يحرصن على القول إن المشاكل التي تنشأ بين الطرفين ليست ناجمة دائماً عن سوء معاملة، بقدر ما تكون سوء تواصل.
أولى المتحدثات سيدة وصلت إلى لبنان قبل عشرين عاماً. تقول إن لبنان هو بلدها الثاني، وتلاحظ تحسناً كبيراً في طبيعة العلاقة بين العاملات وأرباب عملهنّ، من خلال نوعية الحالات التي يستقبلها المأوى: «هناك مشاكل صحيح، لكن لا يمكن التعميم» تقول بإنكليزية ممتازة تعلّمتها في سريلانكا عندما كانت عضواً في حزب سياسي معارض. تعرّض أعضاء هذا الحزب للقتل، هو ما دفعها إلى السفر إلى لبنان: «لأنه أفضل الدول العربية لجهة الحريات واحترام معتقدات الآخر». هذا ما تؤكده أيضاً الراهبة التي قدمت خصيصاً إلى لبنان بعدما سمعت كثيراً عن المشاكل التي تتعرّض لها مواطناتها: «لكني عندما أستقل باصاً مثلاً وألتقي فتيات يعملن هنا، يقلن لي إنهن يعشن في ظروف جيدة». تروي الراهبة بحزن قصة فتاة تعاني اضطراباً نفسياً لأنها لم تتقاضَ أي مبلغ مالي رغم عملها ثلاث سنوات في أحد المنازل. أما لدى الحديث عن فتاة ثانية، تعلّمها ربة عملها اللغة الألمانية في معهد لأنها ستتزوج وتنتقل للإقامة في ألمانيا، فترتسم معالم السعادة على وجهها: «في لبنان كما في كل مكان، يوجد السيء والجيد، المشكلة أن الأمر خاضع للمزاج لا للقانون. لا يوجد ما يحدد الحقوق والواجبات».
السيدة الثالثة التي تعلّم الفتيات في المأوى الأشغال اليدوية، أتت إلى لبنان لتنفيذ مشروع خاص: «افتتاح مدرسة تعلّم الأطفال من التابعية السريلانكية». لكن القانون اللبناني لا يسمح لها بالعمل من دون كفيل، تقيم لديه. عملت فترة بصورة غير شرعية إلى أن وشى بها أحدهم فخافت وسافرت إلى سريلانكا، لتعود وتعمل مع «كاريتاس». تكرر لنا المشاكل القانونية التي تتعرّض لها العاملات في لبنان بسبب غياب أي نص يضع شروطاً للعلاقة بين الطرفين، متسائلة عن سبب عدم السماح لها بممارسة العمل الذي تحبه مثل أي عامل أجنبي آخر قد يأتي إلى لبنان.
يؤكد المحامي جوزف عون، الذي يتابع قضايا عدد من العاملات الأجنبيات في لبنان من خلال تعاقده مع «كاريتاس»، أن أبرز الشكاوى التي يحاول إيجاد حلّ لها هي التأخر في دفع الرواتب لفترات تتعدّى السنتين أحياناً، الضرب والاعتداءات الجنسية. ويعدّد مشاكل أخرى مثل ساعات العمل غير المحددة، عدم الحصول على إجازات مرضية، عدم الخروج من البيت، عدم إمكان الاتصال بأشخاص في الخارج، إضافةً إلى حرمان العاملة جواز سفرها.
أما الحالات التي يهدر فيها حق اللبناني، فيختصرها عون بثلاث: إذا أرادت العاملة التوقف عن العمل بعدما يكون ربّ عملها قد دفع المستحقات كلّها: تذكرة السفر، الموافقة المسبقة، الفحوص الطبية، الإقامة، عقد العمل، بوليصة التأمين، إذا هربت الفتاة وعملت لدى آخرين بطريقة غير شرعية، إذا أوقفها الأمن العام وفرض ترحيلها، لأن الكفيل يوقّع تعهداً بتسفير إذا طلبت السلطات المختصة ذلك.
بناءً عليه، يمكن القول إن عقود العمل ليست جيدة تجاه الطرفين، لأنها لا تحدّد الحقوق والواجبات. «حتى اللبناني، لا يوجد أي نص يجعله، مثلاً، يطلب من العاملة لديه أن تعمل عدداً معيّناً من الساعات أو الأيام». وحدها طبيعة العلاقة القائمة، بين طرف قوي وآخر ضعيف هي ما يرجّح الكفة لمصلحة أحد الطرفين.
قد لا يكون عقد العمل الموحَّد هو الحلّ الأمثل بالنسبة إلى ممثل منظمة «هيومن رايتس ووتش» في لبنان نديم حوري، لكنه بالتأكيد خطوة على طريق تحسين ظروف عمل هؤلاء النساء. يقول، من خلال متابعته لهذا الملف خلال السنوات الماضية، إنه إذا لم تكن هناك رغبة في تغيير نظام هذه العمالة، بحيث لا يفرض على العاملات البحث عن «كفيل» لبناني شرطاً مسبّقاً لدخولهنّ إلى لبنان، فإن المطلوب هو تنظيم العلاقة بين الطرفين من خلال سنّ قانون واضح، وإنشاء مؤسسات تسهّل حلول المشاكل بعيداً عن روتين المحاكم.
ويقترح حوري، الذي يرى أن المشكلة إنسانية بالدرجة الأولى، معالجة هذا الملف في مرحلة لاحقة من خلال تحديد حاجة لبنان فعلاً إلى هذا النوع من العمالة، وإصدار تشريع جديد قائم بناءً على دراسة جدية لحاجات اللبناني. «هناك لبنانيون لا يريدون أن تنام العاملة في بيوتهم. قد يحتاجون منها إلى عدد محدد من الساعات يومياً».


«لا نريد كفيلاً»

قد يكون المطلب الأبرز الذي يتكرر على ألسنة معظم العاملات الأجنبيات اللواتي التقيناهن، رغبتهن في تشريع عملهن بطريقة منفصلة عن الكفيل الذي يستقدمهن إلى لبنان، فهذا يتيح لهنّ مورد رزق أكبر وإن رتّب عليهن مصاريف إضافية. لكن بعضهن يحتجن إلى التخلّص من الكفيل لكي يستطعن العيش ضمن أسرة كما السيدة التي التقيناها في مأوى «كاريتاس»، حيث أنجبت طفلها. هي تعمل في لبنان منذ 10 سنوات. سافرت إلى سريلانكا لتتزوج هناك ثم عادت إلى لبنان مع زوجها حيث يعمل هو ناطور بناية وهي في أحد المنازل. بدأت مشكلتها في اليوم الذي طلبت فيه من ربة عملها السماح لها بالنوم لدى زوجها فرفضت. عندها بات عليها البحث عن «كفيل وهمي» يسجلها على اسمه على أن تقيم هي في منزل زوجها وتعمل مقابل أجر يومي. دلّها أحدهم على رجل لبناني، تقاضى منها مبلغ 3 آلاف دولار أميركي ووعدها بترتيب أوراقها القانونية لكنه لم يفعل. لجأت إلى الأمن العام لتشكو أمرها ففوجئت بعناصره يسجنونها لأن أوراق إقامتها غير شرعية.