سلامة كيلة *أثارت تصريحات رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس»، خالد مشعل، بشأن تأسيس «مرجعية فلسطينية جديدة» لغطاً، وبدا أنها خدمت ما تحاول القول بضرورة تجاوزه، أي منظمة التحرير الفلسطينية ذاتها، حيث أحيت الاهتمام بـ «جثة ميتة»، وأهالت عليها الدعم من حيث لم تتوقع. وهو الأمر الذي أعاد «حماس» إلى موقع الدفاع، حيث أكدت بدورها أنها لا تسعى إلى تجاوز المنظمة، لكنها تطالب بإصلاحها وفق اتفاق القاهرة 2005.
ولهذا، بدت الدعوة إلى تجاوزها أو بدا الدفاع عنها كأنه «صياح لا معنى له». فالمنظمة «مشلولة» منذ توقيع اتفاقات أوسلو، لأن السياسة التي أفرزتها هذه الاتفاقات، كانت تفترض تجاوز المنظمة لمصلحة «السلطة الوليدة». لهذا بدأت تتحوّل مكاتبها إلى سفارات، وأصبحت لا تجتمع إلا إذا كانت هناك حاجة تفرض ذلك. وبدت منتهية بعد وفاة ياسر عرفات إلى أن دبّ الخلاف مع «حماس» على ضوء نجاحها في الانتخابات التشريعية، حيث عاد التأكيد أنها المرجعية الأساس للسلطة، وهي المعنية بالمفاوضات. لكن لا دور لها يتجاوز ذلك. ورغم مطالبات التنظيمات الأخرى بإصلاحها، لا تُعقد اللجنة التنفيذية أو المجلس المركزي إلا حينما يريد محمود عباس، ولتبرير سياساته، كما فعل في اجتماع المجلس المركزي الأخير للخروج من مأزق انتهاء ولايته كرئيس لسلطة «حكم ذاتي إداري»، حيث تبرّع «الرفيق» أبو ليلى باقتراح انتخابه رئيس دولة فلسطين، وهو المنصب «الفخري» الذي أراده عرفات بعد إعلان «قيام دولة فلسطين» سنة 1988، لكنه لم يعد يحتاج إليه بعدما أصبح رئيساً «فعلياً» لـ«سلطة الحكم الذاتي الإداري».
المنظمة هي «الشرعية» التي تحمي السلطة ذاتها بها، كما أبو مازن، ليس أكثر. ولهذا ظل مهيمناً عليها، ومهمشاً كل الأطراف الأخرى، وظل يرى أنها «الممر» الذي يسمح بالسيطرة على سياسات المنظمات الأخرى عبر «الصندوق القومي»، والتوظيف، والمساعدات. وهو الوضع الذي جعل الكثيرين يدافعون عنها لأنها «مصدر رزق» وليس انطلاقاً من سياساتها وبنيتها ووضعها. وما من شك في أن هذه السياسة جعلت المنظمة في وضعية يرثى لها، حيث جرى تغيير برنامجها بعد أوسلو لكي يتوافق مع الاتفاقات الموقعة، وبالتالي بات برنامجها هو برنامج أوسلو فحسب. بمعنى أن المنظمة لم تعد منظمة للتحرير، فلا دور سياسياً، ولا دور نضالياً، ولا دور تمثيلياً. وتحتكرها قيادة السلطة، لا «فتح» التي تهمّشت بدورها، فأصبح في السلطة من أصبح وتشتّت الآخرون.
الدفاع عن وجود المنظمة ينطلق من أنها تمثل «الكيانية الفلسطينية»، وأنها تعبّر عن «الشخصية الوطنية». أي إنها ما يشبه الدولة للفلسطينيين المشتّتين. وهنا نلمس أن هذا الدفاع ينطلق من التمسك باسم ليس إلّا، لأن الواقع يوضح أن هذا الاسم يُستغل لمصلحة سياسات دمرت وما زالت تدمر القضية الفلسطينية. وهي أيضاً لا تمثل مجمل الطيف الفلسطيني، ليس فقط لأنها لا تضم حركة «حماس» والجهاد الإسلامي، بل لأن الممثَّلين فيها لا دور لهم، ولا تأثير في سياساتها.
من هذه الزاوية، تبدو دعوة «حماس» إلى مرجعية لقوى المقاومة لها ما يبررها. فإذا كان رئيس المنظمة يرفض المقاومة، ويرى أن فصائل المقاومة هي ميليشيات يجب أن تحل ذاتها أو تُحل بالقوة، كما فعل في الضفة الغربية، فلماذا لا يكون لقوى المقاومة مرجعية؟
قد يُفهم مما أقول بأنني أؤيد دعوة خالد مشعل، هذا جانب آخر من الموضوع، لأنه يتعلق بطبيعة سياسات «حماس»، وتوهّماتها، وما تهدف إلى الوصول إليه. إنها تريد القول، وخصوصاً بعد «انتصار» غزة، إنها باتت الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، كما فعلت «فتح» بعد معركة الكرامة سنة 1968. وهي ليست جديرة بذلك بسبب أمور عدة، منها أن كل الوضع الذي وضعت ذاتها فيه لا يسمح بأن تحقق خطوة متقدمة في الواقع الفلسطيني، حيث إن مجمل استراتيجيتها تجعلها تميل إلى ممارسة ما مارسته حركة فتح في الحد الأقصى. وهو ما اتّضح بعدما أصبحت في السلطة، ويتّضح كل يوم. المسألة أعمق من «المرجعية»، وتتعلق بالنضال الفلسطيني كله. فقد وُضعت القضية في مسار خاطئ، وظلت تنحدر فيه. ورغم بطولات الشعب، فإن السياسات كانت تودي إلى الهاوية. لهذا، فالأساس هو تحقيق إعادة نظر في الوضع القائم، والتأسيس لمرحلة تنطلق من رؤى مختلفة عما مورس طيلة العقود السالفة. وهنا ألقي اللوم على اليسار، وبالتحديد على الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين (لأنه لا يزال فيها نزوع يساري)، حيث إنها «قلّدت» ممارسات وسياسات، وحكمت ذاتها ببرنامج أوصل إلى هذه الهاوية. ولهذا أرى أنه عليها أن تفكر ملياً في الوضع القائم، وتعيد رسم استراتيجيتها. لقد انتهت منظمة التحرير في جيب أبو مازن، وانهارت كل بنى المنظمات الفلسطينية. هذا هو الوضع الذي يحتاج إلى بدائل.
* كاتب عربي