حسام تمام *أول ما تكْشف عنه مجازر غزة وتؤكّده، هو أن «الإسلامية»، فكرة وتمثلات، صارت سيدة اللحظة الراهنة وتصدرت واجهة المشهد. كان «الإسلاميون» قلب الحدث ومداره. فالقوى النافذة في حركة المقاومة هي القوى الإسلامية (حماس والجهاد في فلسطين)، وهي التي أشعلت المعركة وهي التي قادتها. والإسلاميون، من بين التيارات المختلفة، كانوا القوة التي قادت احتجاجات الشارع وتظاهراته، وكانوا هم الفاعل الأقوى حتى بين الأنظمة، كما ظهر في موقف حكومة العدالة والتنمية التركية ورئيسها رجب طيب أردوغان.
وكانت «الإسلامية»، السمة الغالبة على المشهد العربي والإسلامي سواء في الطرح أو الشعارات. لم تعد القضية «عربية» كما كانت، ليس لجهة دخول إيران وتركيا بقوة على المعادلة السياسية التي ظلت دائماً عربية، بل هي لم تعد عربية من حيث الطرح الأيديولوجي. كانت مقولة «فلسطين وقف إسلامي» التي تضمنها ميثاقها التأسيسي، أبرز ما قدمته حركة «حماس» للنضال الفلسطيني، وهو ما فتح الباب لتجاوز الإطار الوطني والعربي في النضال لأجل القضية. ثم جاءت حرب غزة لتقول إنّ «الإسلامية» صارت هي العنوان الأساس، ليس فقط في الشعارات بل في التصور الذي يحكم منطق النضال.
سيلحظ المراقب ــ مثلاً ــ أنّ شعارات «خيبر خيبر يا يهود»، ملأت فضاء التظاهر ليس فقط في العالم الإسلامي، بل في التظاهرات التي خرجت في قلب أوروبا. فالمعركة هي «معركة الوجود بين المسلمين واليهود». ومن ثمّ، فإن الحل فيها هو الجهاد والجهاد وحده. ورغم الخطاب المتوجه إلى الغرب أو أجزاء منه ــ المنظمات الحقوقية والإغاثية خصوصاً ــ إلا أنّه كان في مجمله يفتقد أصولاً مشتركة ويعوّل فقط على أن الوحشية الصهيونية لن تترك مجالاً إلا للتعاطف والدعم، دونما اهتمام بتأسيس خطاب مشترك.
يحاول هذا المقال رصد تأثيرات الحرب على المشهد الإسلامي (غير الرسمي)، وما جرى عليه من تغييرات في مجمله أو تمايزات بين تياراته الرئيسية. لقد أعادت حرب غزة قضية فلسطين للإخوان المسلمين بقدر ما أعادتهم للقضية من جديد، بعدما بدا أن الأجيال الجديدة أقل وعياً بفلسطين من جيل التأسيس. لقد كان للإخوان الدور الحاسم تاريخياً في الوعي العربي والإسلامي بقضية فلسطين. تبنى الشيخ حسن البنا القضية وحشد لها كل إمكانات جماعته، وكان كتاب «النار والدمار في فلسطين» الذي أعدته الجماعة، أول كتاب عن القضية.
وكان متطوعو الإخوان في حرب 1948، أول من خرج للجهاد في فلسطين. ومن إخوان مصر ظهرت القضية وبان أمرها، وانتقل إلى جميع الوطن العربي والإسلامي، وإلى جميع التيارات الفكرية والسياسية الأخرى. ورثها جمال عبد الناصر وثورة يوليو 1952 وجعلها في قلب مشروع عربي وحدوي. لقد كان ناصر وثلة من الضباط الأحرار ضمن أول تنظيم للإخوان في الجيش المصري، وكان وارث حسن البنا في هذه القضية، رغم صدامه العنيف والشهير مع الإخوان. ثم ظهرت حركة «فتح» بمشروع الثورة الفلسطينية لتعطيها دفعة هائلة، وقد خرج مؤسسوها من رحم الإخوان قبل التحولات التي فرضها زمن المد القومي العربي.
جرت مياه كثيرة في السنوات الأخيرة، وشُغل الإخوان باليومي والآني في صراع محموم مع النظام، بدا فيه طوال السنوات الأخيرة، أن موقع فلسطين تحرك من القلب والمركز إلى الأطراف، بعدما ظهرت أجيال إخوانية جديدة ورثت القضية وراثة المضطر، ولم يكن لها من الوعي ما كان لسابقيها. لكن جاءت حرب غزة لتعيد فلسطين ثانيةً إلى العمق والقلب الإخوانيّين.
لكن يمكن أن نلحظ تفاوتاً داخل الحالة الإخوانية. فيما قبل كان التفاوت معروفاً ومفهوماً بين إخوان دول الطوق المواجهة للكيان الصهيوني، وإخوان بلاد أبعد جغرافياً، ومن ثم أقل تماساً مع القضية. ولكن التفاوت شمل هذه المرة، إخوان المواجهة بحسب ظروف كل بلد.
تحت نيران القصف، وفي ظل استضافة نظام «البعث» السوري قادة «حماس» وتحالفه معهم، أعلن الإخوان المسلمون السوريون هدنة مع النظام الذي اجتثهم من البلاد وشردهم في المنافي. كانت الحرب سبباً في أن يضطر إخوان سوريا إلى تأجيل خصومتهم مع النظام، وكذلك إلى عدم الرغبة في إحراج إخوانهم من «حماس» الضيوف على دمشق، وإن لم يخل الأمر من فرصة أو مبرّر لالتقاط الإخوان السوريين الأنفاس بعدما كسب النظام جولته معهم!
وفي لبنان، وجدت الجماعة الإسلامية نفسها ــ مرة أخرى وبطريقة عفوية ــ تعيد ترتيب تموقعها في المعادلة الداخلية على أساس الموقف من فلسطين. عاد إخوان لبنان للاصطفاف مجدداً ــ ورغم أجواء الاحتقان الطائفي ــ ضمن محور «المقاومة» لتتقارب الجماعة الإسلامية أكثر مع حزب الله رغم مرارات «غزوة» بيروت التي كانت قد باعدت بينهما. ومن ثم ابتعدت الجماعة ــ ولو مؤقتاً ــ مسافة عن تيار المستقبل الذي انحاز ضد «حماس» باعتبارها جزءاً من التحالف السوري ــ الإيراني، قبل أن تعيدها أجواء التحضيرات للانتخابات النيابية إلى تقارب بارد مع تيار المستقبل.
وفي الأردن، وصل الصوت الإخواني مداه في ظل سقف بدا عالياً بأكثر مما انتظره الإخوان الذين قادوا حركة الشارع في أقوى رد فعل، وساعدهم التقاء الموقف الشعبي مع الموقف الرسمي الذي سمح بتصريف غضبه عبر الشارع في ظل عجزه عن أن يفعل أكثر من ذلك.
صعّد الإخوان الأردنيون خطابهم وحركتهم دعماً لحركة المقاومة الإسلامية التي كثيراً ما كانت موضوعاً للغمز في قناة ولائهم للنظام، ولم يتوقفوا كثيراً لتقدير الفاتورة التي سيتحتم عليها دفعها بعد أن تهدأ الجبهة، وربما كانت «مصيريّةُ» المعركة تفرض هذا التحرك «الفدائي»، وربما كانت هي نفسها جزءاً من تسوية لملف العلاقة المضطربة مع النظام.
أما إخوان مصر، فقد استعادوا قضية فلسطين لكن في واقع غير مساعد. للمرة الأولى تقريباً، تقف مصر الرسمية صراحة في الموقع الخطأ في قضية فلسطين. لقد دفعت فلسطين ثمناً مضاعفاً، مرة بسبب ارتهان الموقف المصري بتقديم نفسه للعالم كقائد لمشروع «الاعتدال» في المنطقة، ومرة أخرى بسبب عداء النظام المصري للإخوان، بعدما فقد القدرة على التمييز بين «حماس» كامتداد للمشروع الإخواني وبينها كحركة تحرر وطني فلسطيني.
استعاد الإخوان القضية الفلسطينية، ولكن وفق ضرورات المسؤولية التاريخية التي لا يمكن لمصر ــ أكانت إخواناً مسلمين أو دولة ــ التفلت منها تحت أي ذريعة. ولم يكن للإخوان ما كانوا عليه يوم أحيوها من موات، لذلك جاء تضامنهم رفعاً للعتب حيناً، وبجهد المقل أحياناً، ولم تكن ــ رغم الاعتقالات التي لاحقتهم ــ على مستوى التحدي التاريخي الذي تمر به، فضلاً عمّا يمليه واجب العلاقة التاريخية مع «حماس» التي تمثل مشروع الإخوان في فلسطين.
وفعلت حرب غزة فعلها في الحالة السلفية أيضاً؛ لقد دفعت بالإمكانات السياسية الكامنة في السلفية إلى حدودها القصوى، في الوقت الذي أحدثت حالة من الفرز داخل الحالة السلفية بطريقة نادرة، تمايزت معها تيارات سلفية كانت إلى وقت قريب ينظر إليها ككتلة واحدة.
استعادت قضية غزة الطاقة الحركية في بعض القطاعات السلفية وأخذت بها إلى الواجهة، لقد نزل سلفيو الكويت ــ الأكثر تأثراً بالفكر الحركي ــ إلى الشارع في تظاهرات واحتجاجات، كما اعتمدوا الآليات السياسية غير المعهودة سلفياً، كالمؤتمرات الجماهيرية والأدوات الاحتجاجية البرلمانية. وكانت الحمولة السياسية لخطابهم في أقصاها، ودخلت قطاعات من السلفية السعودية على الخط، ولكن بما يناسب بيئتها. وشهدنا حملات توقيع البيانات التي يتجاور فيها السلفيون مع رموز إسلامية كانت من قبلُ محل تبديع وتفسيق!
في بيان واحد، اجتمعت رموز السلفية السعودية مع رموز من الإخوان بل ومن مفكرين إسلاميين كان يُنظر إليهم سابقاً كحصان طروادة علماني يخترق المعسكر الإسلامي، أو باعتبارهم العصرانيين الجدد بالتعبير السلفي! (محمد عمارة مثلاً).
أمّا في مصر، فرغم حرص التيار السلفي على ترك مسافة بينه وبين السياسة والعمل العام عموماً، فقد أبانت مدرسة الدعوة السلفية (وأهم معاقلها مدينة الإسكندرية) عن نزوعها الحركي، وخاصة أن حرب غزة من «قضايا الأمة» التي لا يمكن تجاهلها أو السكوت عنها. وكان خطابها صريحاً في نصرة «حماس» رغم الخلاف معها (باعتبارها جزءاً من المدرسة الإخوانية). وتجاوزت ذلك إلى تبني القضية تبنّياً تامّاً ودون إشارة إلى هذا الخلاف.
وفرضت حرب غزة نفسها حتى على تيار الوعظ السلفي، فلم يستطع أن ينأى بنفسه عنها وهو الذي كثيراً ما تحاشى كل ما له صلة بالسياسة والشأن العام. ليس مهمّاً التوقف عند مضمون خطاب الوعظ السلفي في قضية غزة (وهو تقليدي وقليل الأهمية عموماً)، بقدر ما تكمن الأهمية في أنه اضطر إلى تغيير أجندته وقضاياه لتتناسب والأحداث.
لقد بدّلت القنوات الفضائية السلفية أجندة برامجها جذرياً لتتصدرها الحرب على غزة. من يعرف قدرة تيار الوعظ السلفي على التحليق خارج اهتمامات الناس وضدها أحياناً، سيدرك أي تأثير هائل كان لغزة على هذا التيار. وغير بعيد من هذا، شهدنا انحساراً للوعظ السلفي المضاد للمقاومة أو المستهتر بها. حالة الاستنكار التي قوبلت بها أقوال محمد حسين يعقوب، لجمته. اختفى صوت يعقوب وقرأ الآخرون الرسالة فصمتوا، ولم نعد نسمع بعدها أي تعرض من هذا التيار باستخفاف للمقاومة. التمايز في الحالة السلفية كان واضحاً ــ أيضاً ــ لجهة عزل السلفية الرسمية كما في الحالة السعودية عن بقية ألوان الطيف السلفي وتعميق عزلتها.
تأخرت السلفية الرسمية في إعلان موقفها كثيراً انتظاراً لمعرفة توجهات النظام، ولم تنطق (بيان هيئة كبار العلماء) إلا بعد خمسة أيام من الحرب. ولما نطقت قالت «كلاماً ساكتاً»، يتكلم في كل شيء ولا يقول شيئاً صريحاً، اللهم إلا التأكيد على الشرعية التي تعني عدم الخروج على النظام!
وحين حاول بعض ممثليها مواجهة حالة التعاطف الإسلامي والشعبي مع القضية (صالح اللحيدان وفتواه بتبديع التظاهر)، قوبل بنقد عنيف حتى من داخل الوسط السلفي نفسه.
أما تيار السلفية الجهادية أو الجهاد المعولم المقاتل من أجل مشروع عالمي بلا وطن، كما تمثله حالة تنظيم «القاعدة»، فقد تموقع على أقصى الهامش الإسلامي. كان هامشياً في حضوره وفي تأثيره، ولم يلق اهتماماً من الشارع، فجزء منه شُغل بغير ما تفرضه اللحظة، فكان نقده لـ «حماس» عقدياً أهم من نصرتها كما فعل أبو محمد المقدسي، والجزء الأكثر تسيساً الذي يمثله الظواهري، لم يوفق حتى وهو يحاول تجاوز دوغمائية الأول، ففات عليه أو غفل عن عمد أن يدعو إلى نصرة «حماس» وقوى المقاومة الفلسطينية.
لقد اعتبرها لحظة مؤاتية لدخول «القاعدة» إلى أرض فلسطين، بما تمثله من رمزية كبيرة، لكنه لم يوفَّق. والحق أن «القاعدة» كانت في مأزق لا تحسد عليه، ما كان باستطاعتها أن تتقدم وما كان باستطاعتها أن تغيب. كان حضورها دعماً لـ«حماس»، خصمها العقائدي في الساحة الإسلامية، وكان غيابها غير مقبول في القضية المركزية التي لن تجد أفضل منها مظلة تعيد بها الهبوط إلى قلب الأمة بعدما انتقلت لأطرافها.
مراوغة التيار الجهادي المعولم لم تفلح كثيراً، ولم تمنحه الفرصة لـ «تزكية» تنظيماته في فلسطين (جيش الإسلام وجيش الأمة) على حساب القوى الإسلامية الأكبر والأكثر تجذراً مثل «حماس» والجهاد الإسلامي. ومن ثم، كان دعمها لممثليها في غزة خافتاً وعلى استحياء. وحده أبو محمد المقدسي من واتته الجرأة لينتقد «حماس» لمصلحة التنظيمات الأخرى المحسوبة على خط «القاعدة».
ثم كانت غزة كاشفة أيضاً لموقع الدعاة الجدد وتيار التدين الجديد في الحالة الإسلامية. تأخرت استجابة هؤلاء الدعاة الجدد مدة أسبوع كامل قبل أن ينطق أبرزهم عمرو خالد. وحين تكلم بدا أن هذا التيار وبغير رجعة غير قابل للتسيس، تيار منزوع السياسة حتى وهو يتكلم في القضية السياسية الأولى بامتياز. فهو يتجاوز منطق المقاومة إلى منطق الفعل المدني المرهون بقراءة السياقات الدولية غير المؤاتية للإسلام والمسلمين، ومن ثم فهو يفضل التحرك في مساحة العمل «السلمي» ويراهن على الجهود المجتمعية التي يمكن أن تقوم بدور توعوي يصل بالقضية إلى الغرب على أرضية مشتركة من حقوق الإنسان.
لقد بدا تيار الدعاة الجدد والتدين الجديد، تياراً من دون أي مرجعية دينية، تشده النظرة للغرب والعالم، فيبحث عن مرجعية عالمية. لذا خلا خطابه من أي حديث عن الجهاد والاستشهاد. بدا تياراً مدنياً ليس في خطابه فقط، بل في وسائل فعله، حيث الـ «فيس بوك» والفضائيات والمجموعات البريدية والتواصل مع العالم لأجل التدخل.
* باحث في شؤون الحركات الإسلامية