فادية حطيطفي بلدها الكثير من الأشياء التي لا تحبها. وهي لا تقصد من هذه الأشياء تلك المتعلقة بالعنف والتدمير وكراهية الآخر وغيرها من المظاهر التي تميت. فهذه أمور يمكن أن تردها إلى التدخلات الخارجية وإلى لعبة المصالح السياسية التي تدفع البلاد نحو مناخ تقنع نفسها بأنها لم تكن واجبة الوجود فيه. ولكن هناك أشياء تجعلها تشعر بأن لبنان مثلما نشأت على فكرته، أي البلد المنفتح والمتطور، ليس متوافقاً مع هذه الصورة.
فهل هو أكثر تطوراً وانفتاحاً من الدول العربية الأخرى؟ أم الأمر مجرد نوع من التباهي والاستعراض يتقنه اللبنانيون؟ تونس مثلاً منعت تعدد الزوجات، والمغرب ألغى كل التحفظات على معاهدة مناهضة كل أشكال العنف ضد المرأة، ومصر أعطت المرأة حق الخلع. ودول عربية كثيرة فيها نساء في سدّة المسؤولية بدون منّة أو تسلق على اسم العائلة أو على ثروتها، رئيسات جامعات، رئيسات شركات، وصاحبات مشاريع كبرى. أما في لبنان فما زال كثير من الإجحاف لاحقاً بالمرأة، ونسبة العنف ضدها كبيرة، وما زال حضور المرأة في الكثير من المجالات خجولاً، والدراسات تبيّن إجحافاً كبيراً بحقها في قوانين الأحوال الشخصية التي تجعلها عرضة لأهواء الشريك ولضغوطات المجتمع حينما يقع عليها طلاق.
مثل هذه الأمور تجعلها تصل إلى نتيجة مؤداها أن لبنان ليس على القدر الذي تظنه من التقدم، ولا هو متطور عن غيره من الدول العربية. ولكن ما إن تستقر على هذا الرأي، حتى تقرأ عن مبادرة مجتمعية أو رسمية مبدعة تعيد إليها فكرتها الأولى. بالأمس قرأت عن توقيع وزير الداخلية على قرار يخوّل الأفراد شطب المذهب عن إخراج قيدهم، وكانت تظن أن الأمر مستحيل. وقرأت أيضاً أن الوزير نفسه سوف يطرح قريباً قانوناً يخول المرأة المتزوجة من أجنبي إعطاء جنسيتها إلى أطفالها. وفي يوم آخر قرأت عن مجموعة شبان نظمت زواجاً مدنياً في منطقة الجميزة تكريساً لحقهم في اختيار زواج غير ديني واعتراضاً على التكلفة المالية التي يسببها السفر إلى قبرص. وفي يوم تالٍ شاهدت مقابلة معمقة وجدية مع مجموعة من المثليين، لبنانيين وعرباً، على التلفزيون، تكلموا فيها بكل حرية وجرأة. وفي وقت آخر قرأت عن مسرحية لمخرجة شابة تقوم بها مجموعة من المساجين وهي مفتوحة للجمهور لمشاهدتها داخل السجن.
إنه بلدها، فيه أشياء كثيرة لا تحبها، وكثيراً ما فكرت بتركه بسببها. ولكن حين تقرأ مثل هذه المبادرات، وحين تتذكر المرات التي أصابه فيها ضيم والدموع التي ذرفتها من أجله، والمرات التي وقفت فيها على شرفة منزلها تدعو الله أن يحميه من كل شر كما لو أنه طفلها الرابع، فإن كل مواقفها السلبية تختفي ويعود إليها تعلقها به. في بلدها الجميل والصعب هناك أشياء بسيطة ورائعة تحدث بدون ضجيج. امرأة تجلس إلى طاولة في مقهى، تشرب كأساً في عتمة الليل، وحدها من دون أن تكون وحيدة. رجل أنيق غارق في شاشة الكمبيوتر الصغير أمامه، وحده من دون أن يكون وحيداً. في بلدها الكثير من القصص الجميلة تنتظر لحظة الانطلاق.