سمادار لافي في 27 ك1 2008، استهلت إسرائيل مذبحة أخرى بحق الشعب الفلسطيني بسبب حكومته المنتخبة ديموقراطياً، حكومة حماس. فعلت ذلك بتشجيع صامت من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ومقاولَيهما الفرعيَّين العربيَّين، مصر والأردن. لقد أمضيتُ الأسابيع القليلة الماضية أتكلّم مع أصدقاء لي في أشدود اضطروا مرات عدة للهروب إلى القدس سعياً وراء ملجأ آمن من الصواريخ. وكانت اللغة المقتضبة التي انتُقيت مفرداتها بتكلّف، تمثّل، وهي تتسرب من التلفاز الإسرائيلي، الضجيج الخلفي لأحاديثنا.
كم هم كلبيون السياسيون الإسرائيليون، إذ اختاروا أن يضحّوا بعائلات غزاوية بريئة من أجل تحقيق تفوّق سياسي في الانتخابات ولم يكتفِ النظام الإسرائيلي بإرسال آليته العسكرية لارتكاب إبادة جماعية في غزة، بل عرّض حياة مواطنيه وجنوده للخطر أيضاً. وقام بذلك كله من دون أن يحاول حتى أن يُجري مفاوضات عن حسن نية مع حكومة الشعب الفلسطيني المنتخبة، ولو لمرة واحدة.
معظم أهل أشدود، أي حوالى 50% من السكان الإسرائيليين، هم من المزراحيين الذين يؤلفون كبرى المجموعات الثلاث التي تكوّن مجمل المواطنين في الدولة. وتعني لفظة مزراحيم بالعبرية «الشرقيين»؛ فهم يهود شرقيون تتجذر أصولهم في العالمَين العربي والإسلامي، أو في الهوامش التي كانت عثمانية سابقاً من أوروبا. ثانية أكبر مجموعة، التي تمثّل نسبة 30%، هي الأشكناز، أي اليهود المتحدرون من أوروبا الشرقية والوسطى. إنهم النخبة الحاكمة. أما المجموعة الثالثة، ونسبتها عشرون بالمئة، فتتألف من مواطني إسرائيل الفلسطينيين.
المزراحيون هم أكثر من تعرّض لصواريخ حماس. فمنذ 1948، قام النظام الأشكناز ـــــ الصهيوني بتوطينهم عمداً كذخائر بشرية في المناطق الحدودية للدولة التي اقتطعوها من فلسطين. أسكن النظامُ المزراحيين في قرى طرد منها الفلسطينيين لكي يحرمهم من حق العودة إلى بيوتهم، هذا الحق غير قابل للتحويل.
امتعضت جماعات المزراحيين من الطريقة الأبوية المتعطّفة التي تتصف بها هيمنة الأشكناز وادّعاءاته الاشتراكية، ولا عجب أنها أيّدت جناح اليمين الآيل للفشل. بعيداً عن الأضواء، يشير قادة جناح اليمين، من الأشكناز هم أيضاً، إلى المزراحيين بألفاظ مثل «القردة» و«الهنود». ولكن هؤلاء القادة أدركوا الحاجة إلى الحفاظ على ولاء المزراحيين، فوظّفوا مبالغ حكومية لإحياء الثقافة المزراحية، عملية أتت بعد عقود عديدة استأصل خلالها جناح اليسار هذه الثقافة لأنه اعتبر كلّ ما هو عربي بدائياً. وبذكاء، أمّن جناح اليمين مواقع مضمونة على المستوى الوطني لمجموعة من المزراحيين الشباب الذين يُعتبر ولاؤهم فوق كل الشكوك.
يدّعي جناح اليسار أنه يقبل بحلّ الأرض مقابل السلام، ولكنه يعيقه عملياً عبر إطلاق أعمال وحشية. أما جناح اليمين فهو أصدق منه، إذ يرفض صراحة فكرة التخلي عن أي أرض.
وللمفارقة، عندما التزمت الأكثرية المزراحية بنهضة ثقافية عربية، جُرّدت عملية الإحياء هذه من كل ما يرتبط بسياسات العالم العربي. يصرخ المزراحيون «الموت للعرب» في تظاهرات عفوية، فيما ينشدون طقسهم اليهودي في معابدهم على ألحان أغنيات أم كلثوم.
يتألف «معسكر السلام» في إسرائيل من الأشكناز الذين يصوّرون أنفسهم في الغرب على أنهم متنوّرون لمعرفتهم أنّ بوسعهم الاعتماد على الأغلبية الديموغرافية المزراحية لحمايتهم من تبعات خطاباتهم الخاصة. ويمكن المرء ملاحظة خبث هذا الخطاب إذا تنبّه إلى أنّ زعماء «معسكر السلام» هم الذين بدأوا مذبحة غزة الحالية وحرب لبنان الثانية من قبلها. ويجب ألا يُنسى أن مرتكب العمل الوحشي الحالي هو إيهود باراك، زعيم حزب العمل، فيما كان وزير الدفاع سنة 2006 عمير بيريز الذي تولّى هذا المنصب من قبله. سلفهما السياسي ليس سوى دايفيد بن غوريون، مهندس النكبة التي قامت على طرد 750000 فلسطيني، سنة 1948.
عندما انهارت الحكومة الإسرائيلية صيف 2008، توقعت استفتاءات الرأي فوز جناح اليمين، بقيادة ناتانياهو. لكن القيادات في كلّ من الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي، شأنها شأن النظامَين المصري والأردني، تفضّل التعامل مع معسكر الوسط من السياسيين الإسرائيليين، المعسكر الذي يضم تسيبي ليفني من حزب كاديما وباراك من حزب العمل. وتوقعت الاستفتاءات فشلاً ذريعاً لهذا المعسكر بسبب استبعاده شبه الكامل لأي ممثل مزراحي. فكاديما حزب أسسه أعضاء أشكنازيون في الليكود أرعبهم تأثير المزراحيين المتصاعد في الحزب، ثم التحق بهم فارّون من سفينة حزب العمل الغارقة.
لقد خطّط باراك لحرب ضارية في غزة مدّعياً أن الغاية منها حماية جماعات المزراحيين من الفلسطينيين. ها إن المزراحيين المحرومين، الذين رفضت الحكومة مراراً وتكراراً أن تبني لهم ملاجئ مناسبة، يكسبون فجأة مكانة إسرائيليين من الدرجة الأولى في وسائل الإعلام الغربية التي تركز عادة على الأشكناز الناطقين بالإنكليزية. فعويل المزراحيين الذين أصابتهم الصواريخ، لا المجزرة بحق الغزاويين، هو ما يُعتبر حدثاً يصلح ليكون موضوع وسائل الإعلام. وما يليه من تغطية إعلامية يُستخدم لتبرير ادعاءات إسرائيل بالدفاع عن النفس. فغالباً ما يضحي نظام الأشكناز بمواطنيه من الدرجة الثانية لتبرير حربه.
يا لسماحة نفس النخبة الأوروبية الإسرائيلية، فهي تعانق اليهود ذوي السحنة الأدكن الذين استوردتهم إلى فلسطين كدرع ديموغرافي ضد العدوّ العربي. الآن وقد أضحت حياة المزراحيين في المناطق الحدودية مشحونة بالصدمات جرّاء النضال الوطني الذي تقوده حماس، كيف يمكن لهؤلاء التابعين الذين يقاسون الفقر ألا يتعاوَنوا؟ فهم في النهاية ينالون 50 ثانية من الشهرة على شاشات التلفاز العالمية، وأكثر من ذلك، ينالونها على أساس أنهم «الإسرائيليون الحقيقيون».
كما في كل حرب شنتها إسرائيل، سيستتبع هذه ازدهارٌ يلي مرحلة الحرب، وهو مكسب إضافي للاقتصاد الذي يسيطر عليه الأشكناز. فبالإضافة إلى محاولة نقل الصوت المزراحي من اليمين إلى الوسط، يتمثل الهدف الآخر من هذه الحرب بتأخير تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية على الاقتصاد الإسرائيلي الذي يقوم صلبه على المنشآت العسكرية الصناعية. لو وقعت صواريخ حماس على المنطقة الوسطى حيث تعيش نخبة الأشكناز، لهاجمت الحكومة إيران بالسلاح النووي، أو لجلست للتفاوض مع قيادة حماس.
لطالما حال «معسكر السلام» الإسرائيلي دون أي إمكان للحوار، دع جانباً الائتلاف، بين المزراحيين والفلسطينيين. وقد فعل ذلك من خلال تجريم القادة المزراحيين على مثل هذه المبادرات.
لقد فوّت حزب الله عليه فرصة تتمثل بنافذة لإجراء حوار بنّاء فُتحت لأمد وجيز بعد حرب لبنان الثانية. ففيما أغدق النظام على الكيبوتس الأشكناز من جناح اليسار، الذين يعيشون في شمال إسرائيل، ملاجئ مكيّفة تحت الأرض، لم يؤمّن ظروفاً موازية للمدن المزراحية المجاورة. وبعد الحرب، اعترف المزراحيون في الشمال علناً وبمراراة بأنه ضُحّي بهم من أجل مغامرة إسرائيل العسكرية. فكان يمكن حزب الله محاورتهم متجاوزاً النظام الإسرائيلي.