فادي عبّود*حمل غلاف مجلّة «الإيكونوميست» في الأسبوع الماضي عنواناً لافتاً هو «عودة القوميّة الاقتصاديّة»، إذ رأى الكاتب أن الأزمة العالمية المعقّدة والخوف من خسارة الوظائف المحلّية ورأس المال المحلي أيقظت شبح القومية الاقتصادية مجدداً، وقال «على الرغم من الفوائد الكثيرة للاقتصاد المعولم، إلا أن هذا الاقتصاد نفسه يواجه اليوم تهديداً واضحاً»... فالكونغرس الأميركي يناقش حالياً خطّة تزيد قيمتها على 800 مليار دولار لتحفيز الاقتصاد الأميركي، وأحد أهم بنودها هوBuy American، أي حصر استعمال البضائع الأميركية في الأشغال العامة... وتبدو قبضة القومية أقوى في القطاع المصرفي، وأن صانعي السيارات في أنحاء العالم يضغطون للحصول على المساعدة، وأكثريّتهم حصلوا عليها فعلاً، وعدداً من الصناعات من الهند وصولاً إلى الإكوادور تطلب المساعدة من حكوماتها.
وتسعى الحكومات إلى حماية البضائع ورأس المال، ويطالب العمّال بحماية الوظائف في ظل تزايد المخاوف، فالعمال في بريطانيا تظاهروا مطالبين بحصر الوظائف بالعمال البريطانيين، وحذا الفرنسيون حذوهم إذ أضرب مليون عامل فرنسي في كانون الثاني وتظاهروا للمطالبة بفرص العمل والأجور.

الحمائية في المنطقة العربية

إذاً، العلاقات التي تربط اقتصادات الدول تقع اليوم تحت ضغط كبير، ومن المتوقع أن يتقلص حجم التبادل التجاري العالمي هذا العام لأول مرة منذ عام 1982... والصورة السائدة في العالم تنطبق أيضاً على الدول العربية المحيطة بلبنان، فالظاهر أن القومية الانعزالية، وليس القومية العربية، عادت إلى الظهور مجدداً، فالمعوّقات التي تعتمدها سوريا معروفة ولا لزوم للإشارة إليها... أمّا في مصر، فقد تقدمت وزارة التجارة والصناعة بخطة لمواجهة الآثار السلبية للأزمة المالية العالمية على قطاعي الصناعة والتصدير، وتتضمن زيادة الحوافز المخصصة للاستثمار فى الصعيد بنحو 400 مليون جنيه، وزيادة المساندة المالية للقطاعات التصديرية بنحو ملياري جنيه، فضلاً عن حزمة من الإجراءات الاستثنائية لخفض كلفة الإنتاج الصناعى، تتضمن تيسيرات مالية للحصول على الأراضى الصناعية، وإقرار إنشاء هيئة لتنمية التجارة الداخلية بهدف تطوير الأسواق الداخلية، وتوفير المزيد من فرص العمل للشباب من خلال المشروعات التى سيتم تنفيذها في المناطق التجارية... وكانت تصريحات وزير التجارة المصري واضحة في أن مصر يجب أن لا تستورد ما يُصنع في مصر، ولذلك عادت مصر إلى فرض الرسوم النوعية والمعوقات غير الجمركية وخاصة على السلع مثل الأقمشة والخيطان وغيرها.
وباتت السعودية تمنع استيراد أصناف عدّة، منها المواد الأولية أو نهائية الصنع، وهي عادت أيضاً إلى وضع المعوّقات غير الجمركية، فمنعت أخيراً إدخال بضائع إلى أسواقها من دون علامات منشأ غير قابلة للإزالة (علماً بأن هناك عدة بضائع سعودية موجودة في الأسواق اللبنانية والعربية ولا تحمل شهادة منشأ على السلعة نفسها)، كذلك فرضت أن يتم الكشف على كل البضائع المصدّرة إليها من قبل شركة SGS، ووجوب إخضاعها لفحوص حسب شروط FDA (علماً بأنه لا يوجد مختبر واحد في كل المنطقة العربية صالح لإجراء مثل هذه الفحوص، ما يحتّم إرسالها إلى الخارج أو تحويلها إلى المختبرات السعودية التي قد تؤخّر إدخال البضاعة لأسابيع).

لبنان خارج المشهد

في ظل هذا الواقع، لا بدّ من التساؤل عن الموقف اللبناني، فهل ما زلنا نفاخر بأننا في منأى عن أي تداعيات محتملة لهذه المتغيرات؟ وما هي التدابير التي اتخذتها الحكومة؟
مثلاً، ما زال ملفّ مصنع يونيسيراميك ينتقل من وزارة إلى أخرى، وكأنهم يريدون أن يتأكدوا من أن هذا المصنع لن يستطيع العودة إلى الإنتاج قبل اتخاذ أي قرار، وأنا شديد الثقة بأنهم سيضعون رسماً جمركياً حمائياً بعد موت المصنع نهائياً، علماً بأن شروط وضع الرسوم الحمائية متوافرة، في ظل دعم البلدان العربية لأكلاف الطاقة دعماً واضحاً.
نحن نعيش في بلد غريب، ففي الوقت الذي تسارع فيه كل الدول إلى تحديد رؤية واضحة لمواجهة المرحلة المقبلة والحفاظ على الوظائف والقطاعات المختلفة، نرى استخفافاً واضحاً في مناقشات الموازنة اللبنانية الماراتونية والتي تمحورت حول المجالس والهيئات، فليس هناك خطة واضحة، بل امتهان واضح لسياسة النعامة عبر التغاضي عمّا يجري حولنا من متغيرات... فقد جرى تعطيل دور مجلس النواب كجهة وحيدة مخوّلة فرض الضرائب، فتسمية بعض الضرائب بالرسوم لا يلغي صفتها الضريبية، كذلك فإن القاعدة الاثني عشرية لم تكن منفذة في السنوات الأخيرة، على عكس ما يشاع، فقد تم فرض التزامات عدة على الدولة من خارج الموازنة، كذلك لا بد من التذكير بأن الخصخصة شبه مستحيلة خلال عام 2009، ولكن الحكومة لا تلحظ البدائل.

رسوم المرفأ نموذجاً

باتت مداخيل مرفأ بيروت تشبه الضريبة المستترة، ففي شهر كانون الثاني تعدّت هذه المداخيل 14 مليون دولار، ما يعني أنها ستتخطى في هذه السنة عتبة 150 مليون دولار، علماً بأن أكثر من 80% من هذه المداخيل تأتي من الرسوم على المستوردات، وهذه الرسوم هي على حسب نوع البضاعة، ولا علاقة لها بخدمات المرفأ، أي تفريغ السفن وعملية الاستيراد.
إذا نظرنا إلى هذا الموضوع من وجهة نظر ماكرو اقتصادية، نجد أن مداخيل المرفأ، إذا تمت مقارنتها مع مداخيل الضريبة على القيمة المضافة، باتت تمثّل نسبة مرتفعة جداً، وهي باتت توازي زيادة نقطتين على هذه الضريبة، لأن الكلفة الإضافية على المعاملة المرفئية، ما عدا الرسم الجمركي، قد يكون أكثر من 50 مليون دولار، ما يجعل رسوم المرفأ وكلفة المعاملات فيه تفوق 200 مليون دولار في السنة... وهذا الأمر يجعل من مرفأ بيروت، على غرار وزارة الاتصالات، مرفقاً لجباية الضرائب، لا لتقديم الخدمات.
تزعم الحكومة أنها لن تزيد الضريبة على القيمة المضافة لأن الوضع الاقتصادي لا يتحمّل، ولكنها تزيدها بالفعل تحت تسمية الرسوم المرفئية... وإذا أخذنا مثلاً ما يدفعه المواطن اللبناني «زيادة» عن بقية دول العالم في الاتصالات ورسوم المرفأ ورسوم تسجيل السيارات وتسجيل العقارات ورسوم الرخص على أنواعها وأشكالها... يتبيّن أن وزنها بات يفوق نسبة 20% من فاتورة الاستهلاك، كما لو أن المواطن يدفع ضريبة بنسبة 20%.

إغراق أشد من السابق

ما يحصل في لبنان يقابله العكس في بقية العالم، فبريطانيا تعمد إلى خفض الضريبة على القيمة المضافة، والولايات المتحدة الأميركية تزيد عطاءاتها، الكبيرة أصلاً، للمصارف والصناعات، والدول الغربية والعربية تعتمد خططاً للحفاظ على فرص العمل وعلى قدرتها التصديرية وترعى استثنائياً قطاعاتها المنتجة في هذه المرحلة الصعبة وتعتمد على المعوّقات الجمركية وغير الجمركية لتخفيف فاتورة الاستيراد... أما في لبنان فالسياسة الاقتصادية يبدو أنها تعيش على كوكب آخر غير مرتبط بالاقتصاد العالمي إلا من خلال تصريحات من هنا وهناك، وطاولات مستديرة وورش عمل لا ينتج منها أي نتيجة ملموسة.
نشهد اليوم إغراقاً أشد قساوة مما شهدناه في السنوات الأخيرة بسبب تقلّص حجم الاقتصادات في بعض الدول المحيطة، ما يجعلها تبحث عن أسواق لتصريف الإنتاج الزائد، وفيما تسعى كل الدول المحيطة إلى حماية أسواقها عبر معوقات مختلفة، لا نزال نعتبر في لبنان أننا لسنا بحاجة إلى أي نوع من أنواع الحماية.
إننا مقبلون على الانتخابات النيابية بعد أشهر قليلة، يتصارع فيها فريقان: أحدهما يسيطر على السياسة الاقتصادية منذ 20 سنة، والآخر يعد بمعالجة شفافة وعلمية للمشاكل المتراكمة إلا أنه لم يقدم أي رؤية علمية وخطة واضحة المعالم ليُبنى على أساسها.
فهل سيسأل الناخب المرشحين عن مواقفهم في الأمور الاقتصادية، ما هو موقفهم من الضريبة على المازوت؟ من رسوم المرفأ؟ من رسوم تسجيل السيارات؟ من تعرفة الهاتف؟ من الصناديق والهيئات والمجالس؟
بالطبع لن يسأل إلا عن زعيمه المفدّى وعن أية بوسطة ستؤويه... سيذهب الجميع إلى الانتخابات وهم غافلون عن أزمة تهدد لبنان بعد حين، تتمثّل بعودة آلاف الشباب إلى بلادهم بعدما فقدوا وظائفهم في الخارج بسبب الأزمة العالمية، وهؤلاء ليسوا مجرد أصوات انتخابية إضافية، بل هم أبناء هذا الوطن ويستحقون فرصة للعيش بكرامة في وطنهم وتأمين وظائف تناسب تطلّعاتهم وأحلامهم... فما هي خطتنا لمواجهة هذه الأزمة التي ستفاقم الأزمات الاجتماعية؟ إن السوق اللبنانية لم تجدد نفسها لاستيعاب فرص عمل جديدة بسبب الاحتكارات المتعددة التي تكبّلها وعدم تنمية القطاعات المنتجة والإجراءات العشوائية التي تأتي في معظم الأحيان ارتجالية غير مرتبطة بخطة أو سياسة متكاملة.
هل سيسأل الناخب عن كل ذلك قبل أن يدلي بصوته الذي لا قيمة له إلا لحظة ممارسة حق الاقتراع؟ هل سيمارس هذا الواجب الديموقراطي بوعي ومسؤولية؟ هل سيحاسب الطبقة السياسية؟
أشكّ بذلك... ستأتي الانتخابات، ويأتي بعدها البكاء وصرير الأسنان، ويعود اللبناني إلى انتهاج سياسة النّق والشكوى من الأمور الحياتية المرهقة، ومن الغلاء والمعيشة الضيقة، ومن ابنه المتخرّج من الجامعة، العاطل عن العمل، ويعود إلى طرق أبواب زعيمه المفدّى ليشحذ منه خدمات هي في الأساس حقّ مكتسب له.
* رئيس جمعيّة الصناعيّين اللبنانيّين