عصام نعمان *لبنان لا يزال ساحة وليس دولة. هو كذلك بإرادة داخلية وأخرى خارجية. الطبقة السياسية القابضة، بأركانها من متزعمي الطوائف وكبار رجال الأعمال والأموال وآمري الأجهزة الأمنية، أخفقت في بناء دولة ونجحت في إقامة نظام هو بمثابة آلية لتقاسم السلطة والمصالح والمغانم. الصراع بين مكوّنات النظام محتدم دائماً ومتشعب ومتعمق.
الخارج، بشطريه الإقليمي والدولي، يجد في لبنان ساحة نموذجية للترويج لمشروعات وسياسات معينة أو لتسفيه أخرى، ولتصفية حسابات سياسية وأمنية مع قوى لبنانية أو عربية. ذلك كله يجري بأدوات لبنانية شريكة أو مأجورة، واللبنانيون دائماً هم وقود الحرائق المفتعلة. باختصار، الاضطراب في لبنان قاعدة، والاستقرار استثناء.
في غمرة الاضطرابات المستشرية، وآخرها ذيول المهرجان الانتخابي الكبير لقوى 14 آذار في قلب بيروت، تطلّ ثلاثة استحقاقات: المحكمة الدولية المنطلقة في أول آذار المقبل، والانتخابات النيابية في مطلع حزيران، ومفاعيل قيام حكومة شديدة التطرف في إسرائيل بعد الانتخابات الأخيرة.
كل من هذه الاستحقاقات بحد ذاتها عوامل توتير واضطراب أو بيئة مناسبة لتوليدهما. ما موقف اللاعبين المحليين والإقليميين في هذا المجال؟
يشي ظاهر الحال، بأن قادة 14 آذار كما المعارضة، حريصون على الهدوء والتهدئة. ففي الحوادث التي رافقت وأعقبت مهرجان وسط بيروت، كان قادة الطرفين حازمين في تطويق ذيولها والتنديد بالفاعلين والدعوة إلى تعميق التهدئة بما هي مصلحة وطنية عليا.
نيات القادة، في هذا المجال، تعزّزها مصلحة سياسية مشتركة. فالطرفان يهمهما، على ما يبدو، إجراء الانتخابات، وكل منهما يعوّل عليها لتحسين وضعه السياسي ويدّعي تالياً أنه الفائز فيها لا محالة.
حتى لو افترضنا أنّ كلاً منهما جاد في إجراء الانتخابات، فإنّ أحداً لا يضمن أن قوى داخل كل من الطرفين، وأخرى خارجهما لن تتدخل، بشكل أو بآخر، لإفساد الأجواء وبالتالي تعطيل الانتخابات.
بعض قوى الداخل لا يزال مفعماً بثقافة الفتنة. فقد بالغت أطراف معينة داخل قوى 14 آذار في الضرب على أوتار طائفية ومذهبية، في محاولة مكشوفة للحد من توسع نفوذ قوى المعارضة. نتج من ذلك أنّ أنصار هؤلاء الأطراف، تشرّبوا ثقافة الفتنة ومارسوها بعنف وعلى نحو خرجوا معه عن سيطرة قادتهم.
في مقابل ثقافة الفتنة هذه، نشأت ثقافة أخرى مضادة، لها المضمون نفسه تقريباً ولكن بلغة مغايرة. والطريف أن كلاً من الطرفين يتهم الآخر بأنه هو البادئ. والحق أنه في مجتمع متوتر ومضطرب تختلط الأفعال بردود الأفعال، فلا يعود المرء قادراً على التمييز بين الفاعل والمفعول به. ثمة خطر، إذاً، في أن يستغل طرف إقليمي أو أكثر، حال التوتر والاضطراب ويستخدم أشخاص الفتنة وأدواتها لأغراضٍ ليست بالضرورة لبنانية. ومع ذلك، تبقى النتيجة واحدة: مزيد من الاضطراب والتشرذم على حساب أمن لبنان وسلمه الأهلي.
لنأخذ المحكمة الدولية مثلاً. إنها مدعوة إلى اتخاذ قرار في موضوعين على الأقل بالغي الحساسية: إفراج المدعي العام لديها عن الضباط اللبنانيين الأربعة الموقوفين على ذمة التحقيق، أو رفض الإفراج عنهم، وصدور قرار الاتهام ضد الفاعلين والمحرّضين والمتدخلين في جريمة اغتيال المغفور له الرئيس رفيق الحريري، أو عدم صدوره قبل موعد الانتخابات في حزيران المقبل.
تبدو قوى 14 آذار شديدة الحيرة إزاء موضوع الضباط الأربعة. بإمكانها أن تحيط المدعي العام لدى محكمة التمييز علماً، بأن لا مانع لديها من قبول طلب تخلية سبيلهم. كما بإمكانها أن تتمسك بموقفها الراهن لغاية آخر الشهر الجاري بحيث يصبحون حكماً تحت سلطة المحكمة الدولية في لاهاي، اعتباراً من أول الشهر المقبل.
أي من الموقفين يعود على قوى 14 آذار بخسائر أقل؟ الحقيقة أن لا مكاسب للآذاريين البتة من الإفراج عن الضباط في لبنان أو الإفراج عنهم من جانب المحكمة الدولية في لاهاي. فالإفراج عنهم في لبنان قبل نقلهم إلى لاهاي، يمثّل انتصاراً مدوّياً لقوى المعارضة ولأنصار سوريا في لبنان. ذلك أنه يسحب من قوى 14 آذار ورقة اتهام دمشق باغتيال الحريري. فقد بالغت في استخدامها للنيل من قوى المعارضة في أوساط أهل السنّة كما في الأوساط المسيحية المناوئة لسوريا. ولكن، ماذا لو أفرجت عنهم المحكمة الدولية قبل إجراء الانتخابات؟
لعلّ الضرر الذي سوف ينزل بقوى 14 آذار أشد وأدهى. ذلك أن قوى المعارضة ستعرف كيف تستخدم الحدث للنيل من ظلم حكومة السنيورة للضباط الأربعة وانحيازها اللافت ضدها وضد سوريا ولمصلحة أميركا. فوق ذلك، ستعتبر قوى المعارضة أن إفراج المحكمة الدولية عن الضباط، إشارة إيجابية لما سيكون عليه حكم المحكمة في مقبل الأيام.
ثم هناك مسألة قرار الاتهام. إذا صدر قرار المدعي العام لدى المحكمة الدولية بحق الضباط الأربعة أو غيرهم من المتهمين، سوريين كانوا أو غير سوريين، قبل موعد الانتخابات، فإن ذلك سيصب في مصلحة قوى 14 آذار التي ستدّعي بسهولة أن لاتهاماتها السابقة أساساً، وأن لسوريا ضلعاً في ما حدث.
هل يصدر قرار الاتهام قبل موعد الانتخابات؟ أوساط 14 آذار تلوّح بذلك، بل هي سرّبت «معلومة» في هذا الصدد، نُشرت في جريدة «النهار». ومع ذلك، فإن أحداً لا يستطيع أن يحدّد تاريخ صدور القرار، لأنّ التحقيقات لم تنتهِ بعد، ولأن المدعي العام بلمار، يعي حساسية الوضع اللبناني المضطرب، وقد لا يكون مستعداً للمشاركة في مضاعفة اضطرابه وتعقيداته.
غني عن البيان أن إسرائيل، في ظل خط اليمين المتطرف الذي سوف يحكمها، تستطيع استغلال ردود الفعل الناجمة عن إطلاق سراح الضباط الأربعة أو الامتناع عن ذلك، والناجمة أيضاً عن إصدار قرار الاتهام بحقهم أو بحق غيرهم قبل موعد الانتخابات أو بعدها. فقد بات واضحاً أنّ إسرائيل ضدّ قيام دولة فلسطينية، وضد التفاوض على القدس، وضد وقف الاستيطان، وضد عودة اللاجئين.
إسرائيل لها مصلحة، إذاً، في استمرار الصراع، كما لها مصلحة في افتعال أزمات جديدة في فلسطين وفي الجوار لشدّ انتباه العالم بعيداً من إجراءات تنفيذ مشروعها الاستيطاني الاقتلاعي الناشط على قدم وساق. إلى ذلك، فإن اليمين الإسرائيلي المتطرف، يؤرقه احتمالان بالغا الخطورة. الأول، حرص المقاومة، بقيادة حزب الله، على الانتقام لاغتيال القائد الجهادي عماد مغنية قبل سنة من جانب جهاز «الموساد». والثاني، امتلاك المقاومة أسلحة دفاع جوي متطورة بإمكانها إسقاط طائرة أو أكثر من طائرات إسرائيل الحربية التي تجوب الأجواء في لبنان في خرق فاضح لقرار مجلس الأمن 1701.
صحيح أنّ قيادة الجيش الإسرائيلي هدّدت المقاومة و«دولة» لبنان بردّ مدمر قاسٍ إذا ما جرت عملية للانتقام للقائد مغنية، أو جرى إسقاط طائرة حربية إسرائيلية فوق أراضي لبنان أو في مياهه الإقليمية، إلا أنّ إسرائيل تعرف أنّ لدى قيادة المقاومة والمقاومين، الإرادة والعزم اللازمين للانتقام لمغنية، سواء بإسقاط طائرة إسرائيلية أو بتدمير أهداف أخرى لا تقل عنها أهمية. من هنا، فإن ما يهمها ليس التلويح بهيبة ردعية سبق للمقاومة اللبنانية أن هتكتها في حرب 2006، وللمقاومة الفلسطينية أن هتكتها في حرب غزة الأخيرة، بل بافتعال وضع سياسي وأمني شديد الاضطراب في لبنان وفلسطين يكون من شأنه إلهاء قيادتي المقاومتين عن مواجهة إسرائيل والتركيز على الداخل لحماية الظهر والدفاع عن النفس.
قائد المقاومة اللبنانية السيد حسن نصر الله أدرك، بحاسته الجهادية السادسة، وبخبرته السياسية والميدانية الطويلة، خطورة ما يمكن أن يفعله العدو؛ فشدد في خطبته الأخيرة على ضرورة التهدئة والمصالحة الوطنية وتفويت فرص التدخل عليه.
قادة قوى 14 آذار، لا سيما وليد جنبلاط وسعد الحريري، أظهرا قبل السيد نصر الله بساعات، حرصاً مماثلاً على التهدئة والمصالحة، وبذلا جهوداً وافرة للجم ردود فعل أنصارهما. غير أنّ ما يُخشى منه هو وفرة العناصر المتشرّبة ثقافة الفتنة. هذه يمكن استخدامها بشكل أو بآخر من جانب قوى داخلية وخارجية لا تريد للبنان الاستقرار، بل تبتغي إبقاءه ساحة للاقتتال ولتصفية الحسابات المحلية والإقليمية، لا سيما مع قوى المقاومة التي نجحت في هتك هيبة إسرائيل الردعية وتستعد لدحرها في أي عدوان جديد.
* وزير سابق