سعد الله مزرعاني *بكثير من الثقة بالنصر، شدّد رئيس الغالبية النيابية، السيد سعد الحريري، على أن اللعبة الديموقراطية ستأخذ مجراها بعد الانتخابات النيابية في 7 حزيران المقبل. أكد أنه بموجب ذلك، لن تقبل الأكثرية بأن تشارك الأقلية في السلطة، كما هو الأمر حالياً (في إشارة إلى حصول ذلك بنتيجة أحداث 7 أيار الماضي حين سيطرت المعارضة على العاصمة وفرضت ميزان قوى ضاغط لغير مصلحة الغالبية).
وقد ردّت المعارضة مجدداً على ذلك، بلسان قوتها الأساسية «حزب الله»، حيث كرر أمينه العام السيد حسن نصر الله، أن المعارضة ستفعل العكس، إذا تمكنت من حصد أكثرية في مقاعد مجلس النواب، وأنها ستعطي الأقلية الجديدة «الثلث الضامن أو المعطل».
في البداية، يجب ملاحظة أن هذه المسألة غير معزولة عن موازين القوى في الداخل وفي الخارج، وعن الصراعات أو التفاهمات التي يمكن أن تؤثر على هذه الموازين. وكذلك، هي غير معزولة عن القضايا موضوع الصراع: هل هي قضايا أساسية؟ هل هي ذات مفاعيل تمتد من لبنان إلى خارجه أو بالعكس؟
لكن يبقى أن هذه المسألة تحتاج إلى معالجة استناداً إلى ما هو قائم في النظام السياسي اللبناني من معادلات وتوازنات ذات خلفية طائفية ومذهبية. وهنا نقع على عدد من المفارقات أو المغالطات التي تجب الإشارة إليها في التعامل مع مفهوم الأكثرية والأقلية، وخصوصاً في مسألة «الديموقراطية التوافقية» التي يتردد استحضارها في مناسبات الصراع وغياب التوازن ومواسم الغلبة والاستئثار، من هذا الفريق أو ذاك... ونتذكر أنه بالأمس القريب، ثار الصراع بشأن هذه المسألة بعد استقالة «الوزراء الشيعة» من حكومة الرئيس فؤاد السنيورة السابقة.
وفي مجرى ذلك، تعددت وتناقضت الاجتهادات بشأن شرعية أو حتى إمكان استمرار الحكومة إذا استقال منها فريق أو مكوّن أساسي. ويحيل ذلك، في الواقع، إلى مسألة مواقف الأطراف من مسألة استمرار اعتماد القيد الطائفي في المجلس النيابي وفي تأليف الحكومات وفي بناء الإدارة الرسمية عموماً. ونحسب أن ما يبرز هنا من تباين بين الطرفين، إنما يتناول الممارسة من دون الذهاب أبعد إلى ما يتناول ضرورة احترام النصوص الدستورية ذات الصلة وتطبيقها.
يجب أن نلاحظ، بدءاً، أنّ النقاش الدائر إنما ينطلق من الواقع الآني الممارس. وهذا الواقع هو، حسب النص الدستوري، حالة مرحلية، لكنها امتدت طويلاً في الزمن، نظراً إلى إجماع النافذين (من الداخل والخارج) على إدانة ما هو مؤقت في الاتفاقات والتفاهمات، وحتى في الدستور اللبناني.
ونذكّر في هذا السياق، أن المادة 95 من الدستور اللبناني في تعديل عام 1943، كانت تنص حرفياً على: «بصورة مؤقتة، والتماساً للعدل والوفاق تمثل الطوائف بصورة عادلة في الوظائف العامة، وبتشكيل الوزارة دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة». المؤقت تحوّل إلى دائم، واستمر العمل بهذه المادة حتى عام 1990، أي طيلة 47 سنة نقداً وعداً...
ولقد تقرّر تعديل هذه المادة بموجب «اتفاق الطائف» لعام 1989. وبموجب قانون دستوري حمل الرقم 18 (21/9/1990)، أصبح نص المادة على الشكل الآتي: «على مجلس النواب المنتخَب على أساس المناصفة بين المسلمين والمسيحيين، اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق إلغاء الطائفية السياسية وفق خطة مرحلية وتشكيل هيئة وطنية برئاسة رئيس الجمهورية، تضم بالإضافة إلى رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء، شخصيات سياسية وفكرية واجتماعية. مهمة الهيئة دراسة واقتراح الطرق الكفيلة بإلغاء الطائفية وتقديمها إلى مجلسي النواب والوزراء ومتابعة تنفيذ الخطة المرحلية». وتضيف المادة: «وفي المرحلة الانتقالية (بخط بارز في النص الدستوري): تمثل الطوائف بصورة عادلة في تشكيل الوزارة».
لا يخفى هنا، على أي قارئ، التمييز الواضح ما بين الثابت والمؤقت وما بين المرحلي والدائم. إلا أن ذلك لم يمنع من أن النقاش الدائر اليوم إنما يستند، علناً أو ضمناً، على ما هو مؤقت بوصفه هو الأساس وهو الدائم، كما جرت العادة في السجالات السياسية التقليدية اللبنانية. وهكذا فإن من يقول بضرورة اعتماد مبدأ أكثرية تحكم، وأقلية تعارض، (البطريرك صفير أيضاً يكرر هذا الطلب دون تبصُّر في مفاعيله التي قد تذهب إلى حدها الأقصى... طائفياً!)، إنما يحاول أن يتجاهل أن الطوائف يجب أن تتمثل «بصورة عادلة» في «المرحلة الانتقالية».
وهذا التمثيل، لا يجد له تعبيراً أفضل من اعتماد نتائج الانتخابات النيابية، بل سيكون كل معيار آخر متعسفاً واستنسابياً، وبالتالي سيُطبع بطابع التفرد والاستئثار.
كذلك، ففي نقد موقفَي الموالاة والمعارضة (الأكثرية والأقلية)، سنقع على موالاة (أو أكثرية) تتجاهل الموجبات المرحلية للنص الدستوري، من دون أن تعد بتخطي المرحلي إلى الدائم، ومعارضة أو أقلية، تكتفي في تعاملها مع التوازنات والعلاقات، بما هو مؤقت ومرحلي، دون أن تتخطاه، هي الأخرى، إلى الثابت والمستمر.
يجتمع الطرفان، إذاً، على التعامل مع الدستور انطلاقاً من استمرار تجاهل أحد أهم بنوده الإصلاحية. وذلك يجعل النقاش ووعوده (أو وعيده) (رغم بعض الفارق في النتائج)، غير إيجابية، من منظور إصلاحي وتغييري باتت البلاد بأمس الحاجة إليه. كما أن هذا النقاش سيحمل، بالضرورة، الكثير من التناقضات والمفارقات لجهة الأضرار السياسية أثناء التطبيق. ويتساوى، إلى حد كبير، في توليد هذه الأضرار، قرار رفض المشاركة (استئثار وتوتر...) أو قرار المشاركة (عبر ثلث ضامن أو معطل) في ظل استمرار الصراع وعجز المؤسسات من احتوائه، وبالتالي تأليف حكومة عاجزة عن اتخاذ القرار وعن تطبيقه، كما هو الأمر بالنسبة للحكومة الحالية.
والحلّ بسيط: يجب العودة إلى الدستور وتنفيذ مضمون المادة 95 منه، لجهة وضع خطة مرحلية لإلغاء الطائفية ومتابعة تنفيذ هذه الخطة. ذلك يعني، بالتأكيد، اعتماد مقاربة جديدة لعملية بناء المؤسسات اللبنانية، ولتكوين السلطة، ولعلاقات المواطن بالدولة ولعلاقة المواطن بالمواطن. وقاعدة كل ذلك، إلغاء الأساس والمرتكز الطائفي للنظام السياسي اللبناني ولمؤسساته، واعتماد مبدأ المساواة بين المواطنين.
إنّ مقاربة من هذا النوع، ستؤدي بالضرورة، إلى جعل النقاش الحالي نقاشاً مؤقتاً، أي نقاشاً يدور لمرة واحدة، وفي كنف سياق تغييري، هو ببساطة، سياق دستوري طالما جرى حياله اعتماد المؤقت على حساب الدائم، والآني الجزئي، على حساب الثابت والكلي، والفئوي على حساب الوطني!
تُنسَب لأطراف أساسية في الأكثرية، الرغبة بل المصلحة، في استمرار تجاهل الإصلاح وإدارة الظهر للتغيير على كل صعيد: في هذا التقدير الكثير من الصحة، ولو أنّ التعميم غير جائز. ويُنسب إلى المعارضة (الأقلية)، الرغبة في إحداث التغيير لولا المعوقات والحسابات الداخلية... في هذا القول، ما يحتاج إلى إثبات. فاستمرار التذرع بمواقف الآخرين، لم يعد يصلح أساساً لسياسة شاملة حيال الوضع اللبناني. لقد ظهرت آثار الخلل الطائفي بشكل مخيف في السنوات الماضية. وهي كادت تطيح إنجازات وطنية تاريخية. عنينا بذلك إنجازي التحرير والمقاومة من جهة، وبعض تقاليد الانفتاح والديموقراطية، من جهة أخرى. لا سبيل، بعد اليوم، لعدم الربط، بشكل صحيح وموضوعي، ما بين خيار المقاومة وخيار الإصلاح.
إن هذا الربط ضروري أيضاً من أجل بناء لبنان وطناً موحداً وحصيناً وسيداً ومستقلاً وعربياً وديموقراطياً. لم تعد مهمة التحرير منفصلة عن مهمة التغيير. ذلك، أيضاً، استنتاج يصح، بدرجة أكبر، على الوضع العربي عموماً... ألم نصدّر تجربتنا الطائفية إلى العراق (بقرار أميركي)، وها إن العراق يبدأ بإعادتها إلينا كنتيجة لهزيمة المشروع الأميركي هناك، وسقوط رموزها من بغداد إلى واشنطن؟
* كاتب وسياسي لبناني