في هذه المدينة، في الحمرا وحارات بيروت الأخرى، ما زال للجدل مكان، نقصد هنا الجدل والمعارك الثقافية... أخيراً شهدت المدينة احتفالاً بكتاب ضد «النجومية الثقافية»، إنه نتاج فئة من الشباب تسخر من قصائد رديئة وغير مفهومة، يقول كتّابها الشباب إنها تنتمي إلى تيار الـ«نيو حداثة»
رنا حايك
ضاقت «ساحابوفا» ذرعاً بنوعية بعض الإصدارات الشعرية الرديئة لأقرانها من الشباب اللبنانيين. أحبّ «شكرونسكي» أن يكسر «شطحتهم»، كما استهوت «المجدلية» فكرة انتقاد الظاهرة بأسلوب مسلّ ومواجهة حرية التعبير بحرية الأسلوب المعتمد في نقدها. أما «غصن»، فقد بحث طويلاً عن معنى للقصيدة المؤلفة من كلمة وثلاث نقاط، لكن عبثاً...
في حانة معتمة من حانات شارع الحمرا، قلب المدينة الثقافي الخافق، جلس الأربعة، بالإضافة إلى صديقهم «فهرس»، يتراهنون على قدرتهم في نظم أشعار «نيو حداثية» يلفّها الغموض لدرجة انتفاء المعنى. كلما قرع كأس فاض بـ«خماسية من القرن الواحد والعشرين» وبضحكات مدوّية. لم تنته سهرة المزاج على خير، بل انتهت على... كتاب. كتب الندماء أبياتهم على مناديل ورقية، جمعوا ما بقي في جيوبهم من رواتبهم، وقرروا طبع «المزحة» في كتاب «جدّي» صمّمت «المجدلية» المتخصصة في التصميم الغرافيكي غلافه... بعدها وقّع المؤلفون الكتاب في حفلة أُقيمت في حانة «UPSTAIRS» التي يستثمرها «غصن» في شارع المكحول، وقد دعي إليها الأصدقاء من خلال إعلان على موقع «فايسبوك» الإلكتروني.
مبلغ الـ125 ألف ليرة الذي تمكّن الأصدقاء من جمعه لم يكف سوى لطبع 30 نسخة من كتاب الشعر «تأملات»، كما أنه لم يكف
لإصدار نسخ منمقة وخالية من الأخطاء المطبعية وأخطاء التصميم، إلا أن سحابوفا وظّفت تلك الثغرة لخدمة «المحاكاة التهكمية» التي قامت بها هي وأصدقاؤها حين برّرت تركيب الكتاب من الشمال إلى اليمين بـ«رمزية التقاء الحضارتين الغربية والعربية»، وخصوصاً أن من ينتقدهم الكتاب يتذرعون بالتطوّر الحداثي الغربي لتفسير غموض نصوصهم، وتضيف أن الكتاب تخلّلته قصيدة بالفرنسية لـ«المجدلية»، كما أن «المؤسسة العصرية للشباب» الوهمية كانت الجهة التي أصدرت الكتاب، وقد حضر ممثّلها من النروج خصيصاً لحضور حفل التوقيع!
حظيت «تأملات» الشعراء الخمسة الذين «اكتشفتهم اللغة العربية في زمن الكلمات المتقاطعة» كما عرّفوا عن أنفسهم في مقدمة الكتاب، شاكرين «كل من وقف وراء نجاح هذا العمل... وأمامه»، بإعجاب الذين حضروا إلى حفل التوقيع وناقشوا مع المؤلفين محتوياته بمنتهى الجدية. أما «السهيرة» الذين صادف وجودهم في الحانة خلال الحفل، فقد اعتمد المؤلفون معهم «أسلوب الإلحاح المتبع عادة من المؤلفين خلال حفلات توقيعهم في معرض الكتاب، لحثهم على شراء الكتاب» كما قالت «سحّابوفا». النتيجة: بيعت النسخ الثلاثون.
«المشكلة الأساسية هي الاستسهال. فقد أصبح الشباب ينشرون، تحت ذريعة الشعر الحديث، نصوصاً غير مفهومة حتى بالنسبة إليهم، مبررين غموضها بعمق مزيف»، يقول «شكرونسكي» شارحاً ما يطلق عليه «غصن» ظاهرة «التّنمر الشعري». فالشاب أصبح يرى في الكتاب الذي يصدره قيمة مضافة لا بد منها تذكرة للدخول في عداد «المثقفين النجوم»، مهما كانت موهبته متدنية. وهو واقع أدى إلى رواج «الركاكة والتجارب الفارغة وغير الخلاقة، التي تفتقر إلى حرارة الموهبة وحيوية الإبداع».
انطلاقاً من هذا الواقع، تنتقد سحابوفا «شيوع لغة شعرية تفتقر إلى البلاغة، وصورة شعرية لا تقدّم سوى فذلكة فارغة، ومعنى ينقل واقع المؤلف المعيش بصيغة مباشرة ركيكة بدل أن ينأى بالقارئ عن واقعه المعيش، عبر جماليات ساحرة».
رأى الأصدقاء أنهم قاموا بـ«فشّة خلق» أو مزحة. بعضهم لم يدرك مدى شيوع الحركات الشبيهة بتلك التي قاموا بها، وامتدادها التاريخي، ودورها الذي أسّس أحياناً لحركات رديفة أعادت تقويم الاتجاهات السائدة وتصويبها في مختلف المضامين السياسية والاجتماعية والأدبية والفنية. فقد سبق لحركات طليعية متتالية ولدت من عتمة أزقة المدن أن حقّقت طفرات أرّخت لعهود جديدة، لم يكن المذهب الفوضوي والدادائية في الفن والأدب ولا النسوية والهيبي والبانك في الحقل الاجتماعي السياسي، ولا «البيتنيك» وفنون الشارع والغرافيتي أو البانك والروك في الموسيقى أصغرها.
وبما أن كل المدن تنضح بما فيها. و«ما فيها»، يفيض على كراسي مقاه تفترش الرصيف، وعلى طاولات المنادمة في حانات ليلية صاخبة، فقد اشتمّها هؤلاء الشباب في الهواء المحيط بأقران لهم يتلو بعضهم على مسامع بعض نصوصاً وأشعاراً ألّفوها، تستقبل بإيماءات الإعجاب، مهما كان مستواها، ما يشجع أصحابها على نشرها بعد حين على شكل رزمة من الورق تحبس بعناية بين دفتي كتاب يصبح بمثابة تذكرة مرور الشاب إلى عالم المدينة «الرديف» الذي يحتفي به، ويصنع منه نجماًً.
رصد الأصدقاء الخمسة مهرجان التواطؤ السائد الذي يفضي إلى دوامة من تردّي منتج أدبي كان من المفترض أن يعتبر أدب المدينة الرديف.
إلا أن ما يفيض على سطح المدينة ليس الرديف الحصري، فهناك دائماً، خلف كراسي المقاهي وطاولات الحانات الصاخبة، والجالسين في الصفوف الأولى خلال أمسيات «الشعر الحديث» والمتواطئين في صفوف الانتظار الطويلة أمام مؤلف حديث يوقّع كتابه الحديث بدوره، حركات تثور على رديفية مصطنعة واهية، وعيون تراقب بصمت مسالك الاستسهال التي تنبت كل يوم شاعراً جديداً نجماً، فتنتج رديفية مضادة متفلتة من قواعد الاتجاه السائد (main stream) الركيكة، تهدف إلى تقويم مسار الإنتاج الأدبي.


هذيان نيو حداثي


حلمٌ: ما زال سوف زُحَل
الحلّ كان ما زالَ أن سوفَ ترى أن أنّه سوف...
أن أنّه زُحَل..
أن أنّه أن زُحَل انكسفَ ولوجي على مداره
على مداره... فأن أنّ
قومي يا مارلين مونرو.. قومي
شكرونسكي
العدم..
عندما عرفني العدم
هجرني الندم
واستيقظَت في وجداني
فواصل العجب..
فبَطُلَ..

سحابوفا