فلسطينيو شاتيلا لا يعرفون ماذا يشربون و اين يدفنون19 ألف نسمة تسكن في مخيم شاتيلا تشرب مياهاً أظهرت نتائج تحاليل مخبرية لعيِّنات مأخوذة من محطات لبيع المياه المُكرَّرة، أنها تحتوي على «بكتيريا بُرازية»، أي إنها مختلطة بمياه المجارير. ترجّح الدراسة التي حصلت «الأخبار» على نتائجها، أن يكون أحد أسباب هذا التلوث الفظيع تسرب مياه الصرف الصحي إلى الآبار، ربما بسبب طبيعة الأرض الرملية، وذلك في غياب مشروع للبنى التحتية تأجّل تنفيذه أكثر من مرة. أما السبب الثاني، فهو طريقة تكرير المياه التي تُباع لأهل المخيم على أنها مُكرَّرة، فيما باعتها يبدو أنهم لا يدققون كفاية بأدواتهم، أو أن بعضهم يستخفّون بصيانتها، على أساس أنه «عندنا مناعة» كما يحاول بعضهم الاستظراف.

راجانا حمية
ليس الفقر في شاتيلا هو فقط ما يؤلم. فكل يوم في المخيم المتروك لحاله يحمل معه قدراً إضافياً من البؤس. خبر اليوم هو مياه الشفة. ففي إطار تحضيرها لرسالة دكتوراه في علوم الأحياء، أجرت سمر فاخوري دراسة عن مياه مخيم شاتيلا، خلصت إلى ما يأتي: «أظهرت النتائج الماكروبيولوجية لعيِّنات المياه التي أُخذت في أوقات مختلفة من باعة المياه في المخيم، وجود البكتيريا البُرازية في المحطات الآتية (....) التي يعدّد التقرير أسماء 8 محطات منها، إضافة إلى تسميته الآبار الأربع الموجودة هناك. الخبر الحقيقي، هو أن الخبر ليس جديداً في شاتيلا. هذا ما أجمع عليه المسؤولون هناك لـ«الأخبار»، من أونروا ولجان شعبية وأهلية. «الأخبار» حملت النتائج الى تقنيّ في مختبر «مركز الأطباء»، أكد لها «أن المياه ليست ملوّثة فحسب، بل هي أقرب إلى مجرور منها إلى مياه صالحة للشرب».
كل هذا يجري في المخيم. والكل، ما عدا الأهالي، يعرفون ذلك! هذا التكتم اختارته اللجنتان الشعبيتان الموجودتان في المخيم، كنوع من مهلة لأصحاب المحالّ الملوثة مياههم قبل «التشهير بهم» كما قال خالد أبو النور من لجنة المخيم الشعبية التابعة لمنظمة التحرير. لكن هل يجوز التكتم في موضوع صحي بهذه الخطورة؟ وكيف يطيق هؤلاء أن يروا سكان المخيم يشربون الأوبئة بدون إعلامهم؟ هل السبب أن بعض الباعة محسوبون على جهات ذات نفوذ في المخيم كما قال سليمان عبد الهادي أمين سر اللجنة الشعبية أيضاً، لكن التابعة لتحالف الفصائل؟ أم أن الإقفال متعذر نظراً للانشقاق بين اللجنتين؟
الثابت أن عبد الهادي، بمبادرة فردية، بلّغ أصحاب تلك المحالّ بنتائج الفحوص المخبرية، مطالباً إياهم بمعالجة المشكلة، مستبقاً بذلك ما كان متفقاً عليه بين لجنتي المخيم الشعبيتين. فقد اتفقت اللجنتان على عقد لقاء موسع هذا الأسبوع مع الباعة لتزويدهم دليل تطهير مياه الشرب الصادر عن منظمة الصحة العالمية، وإعطائهم مهلة شهر لتحسين نوعية المياه، وإلا «فليكن التشهير وإقفال المحالّ المخالفة»، بحسب ما يؤكد نائب أمين سر اللجنة الشعبية التابعة لمنظمة التحرير خالد أبو النور. لكنّ مصدراً في إدارة المخيم شكك بإمكان التوصل إلى حل، لكون لا أحد يملك صلاحية إقفال تلك المحالّ، لا الأونروا «ذات الوظيفة الخدماتية»، ولا اللجان إذا لم تتفق. ويؤكد أبو النور هذا التقويم حين يجيب عن السؤال بقوله: «إن توحدنا»، ويقصد اللجنتين.
توحدوا أو لا، الأمر لا يهم أصحاب المحال. هؤلاء يعرفون جيداً أنه «لو طلعت المياه مش معقمة مين في يقللي سكّر محلك؟ لا أحد، لا دولة ولا وزارة صحة ولا لجنة» حسب أحد الباعة «المتهمين». يبدو الرجل الذي رفض البوح باسمه، «لا خوفاً، بل تجنباً للمشاكل بالحي»، أنه غير مكترث لما يظهر من إهمال في محله لأي زائر. فخزانات المياه في الغرفة المتعفنة يتآكلها الصدأ، فيما أنابيبها مائلة إلى اللون الأصفر من الترسبات التي تظهر جلية بمجرد النظر إليها. لكنه مقتنع بأنه «يخدم الناس بمجرد أنه أمّنّا الميّ». لكن، هل يأمن هو لسلامة ما «يؤمّنه»؟ وفق حساباته «المياه منيحة بتتناسب مع وضع المخيم. فالمياه المفلترة أصلاً ليست صحية». فلترة؟ لكنه لم يذكر أي فلتر حين شرح آلية تكرير المياه في محله التي تقوم على «تنقية المياه بواسطة الكلور، ثم نضعها في خزان معقم»! يجيب: «هناك آلة صغيرة تصفّي المياه من الترسبات». هذه هي آلية التعقيم في المخيّم. لكن ثمة طريقة أخرى، تتّبعها غالبية المحالّ هناك، لكن لا أحد منها وصل إلى تحقيق المعايير التي وضعتها منظمة الصحة. ففي المبدأ، يفترض أن تمر المياه غير النقية، بمصفاة أولى «فلتر» لتنقيتها من الترسبات، ثم تعبر آلة «الإلكترون» لقتل الجراثيم، ومنها إلى آلة أخرى توضع فيها أدوية لنزع الرواسب والمعادن، ومصفاة ثانية وأخيرة. كل هذا قبل أن تصل إلى خزان التوزيع. ما يحصل في المخيم هو «ربع» هذه الإجراءات. فالبعض «دايرها حمصية» كما قال علي الحاج، أحد الباعة، وقد يكتفي بالفلتر ومادة الكلور، علماً بأن الفلتر يستخدم لمدة أطول من صلاحيته. أما آلة قتل الجراثيم، فلا يعتمدها الجميع، على اعتبار أنها «ما كتير بتقتل البكتيريا» كما قال أحد الباعة، أو لأن «التيار الكهربائي لا يستطيع تشغيلها» كما قال بعضهم الآخر.
لكن ثمة ما هو أكثر سوءاً، فماذا لو كانت المياه التي تصل إلى تلك المحالّ هي أصلاً ملوثة؟ وهو ما يشير إليه عضو اللجنة الشعبية التابعة للمنظّمة زياد حمّو «منذ أن أصبحت مجاري الصرف الصحي فالتة في زواريب المخيم، باتت بئر اللجنة الشعبية تشبه المجرور، لكون مجاري الصرف الصحي تصب فيها مباشرة، فيما الآبار الثلاث الأخرى تتسرب إليها مياه الصرف بسبب طبيعة الأرض الرملية التي تمتص سريعاً، إضافة إلى أن عمق تلك الآبار لا يتعدى 45 متراً، إي إنها على سطح الأرض، ما يسمح بوصول تلك الأوساخ».
أمام هذا الواقع المأساوي، تعمل اللجنتان في المخيم بالتعاون مع الأونروا على مشروع بنى تحتية للمخيم، تتضمن حفر بئر بعمق 500 متر لمياه الشرب. لكن «يا فرحة ما تمت»، فالمشروع لم يبصر النور، وها هو يتأجل للمرة الثالثة لأسباب يقول عنها عبد الهادي إنها «حركشة من أصحاب محالّ بيع المياه، الذين لن يرضوا بإقفال مصالحهم بهذه السهولة». هم لن يرضوا، ولجان المخيم لم تجد الحل بعد، والأونروا لا تتدخل إلا خدماتياً. وأمام كل هذا، ما الذي سيفعله الأهالي لكل هؤلاء «المسؤولين» إن علموا بما يشربون.


الجوار اللبناني «تملّك» شبكة مياه المخيّم

كان يمكن أزمة المياه أن تكون أخفّ وطأة من الآن، لو أن مخيم شاتيلا «لم يمرّ في حرب المخيمات»، كما يقول مصدر متابع في المخيم، والسبب في ذلك أنه في عام 1985 قطع الجوار اللبناني للمخيم شبكة المياه التي كانت منظمة «الأونروا» قد استأجرتها لتزويد المخيم المياه من مؤسسة مياه لبنان. أما سبب قطع تلك الشبكة عن أهالي المخيم، فهو المشاعر التي كان يكنّها هذا الجوار، وأغلبه في حرب مع الفلسطينيين يومها، التي أدّت إلى هذا الإجراء الانتقامي «حيث قام هؤلاء بعد قطع الشبكة، بتحويلها إلى أحيائهم». يُذكَر أن «الأونروا» كانت قد قامت بالتمديدات في فترة الستينيات، ولم يتطرق أحد إلى هذا الحل المحتمل منذ ذلك الحين.