نهلة الشهالمقتل التلميذة الفرنسية في تفجير غامض أمام مسجد الحسين في قلب القاهرة التاريخية، ووقوع عشرات الجرحى من رفاقها والمارة، ليس رداً على شيء. لا هو انتقام من موقف الحكومة المصرية المتواطئ مع العدوان الإسرائيلي على غزة، ولا هو ضغط عليها بسبب استمرار إغلاق معبر رفح واستخدام موضوعه في ابتزاز حماس. ناهيك عن التأثير على فرنسا أو على أوروبا، عبر تهديد أمن مواطنيها السائحين. النتيجة الوحيدة لمثل هذه الأعمال هو قلب المشهد على رأسه. فهو يمنح الموقف المصري الرسمي مخرجاً مذهلاً، يعطّل أو يشوّش التفاعل الجاري في المجتمع حول تقويم سياسة مبارك وحكومته، وما ينبغي أن تكون عليه. فهذه تفارقت عما يميل إليه الناس في عموم مصر من تعاطف مع فلسطين واستعداد للتضامن مع أهلها. خلال أحداث غزة، منعت السلطات المصرية المدججة بمليون ونصف مليون عنصر من قوات «الأمن المركزي» العالية التدريب على القمع، التظاهر في قلب العاصمة. ثم، وبسبب الاحتقان الشديد والخوف من الغضب المكتوم، انساقت إلى تسوية مع القوى السياسية تاركة إياها تدعو إلى التظاهر في الأحياء الطّرَفيّة من العاصمة، وفي سائر المدن المصرية... وبهذا تكون ربما تلافت تظاهرة مليونية في القاهرة، ولكنها، ومن حيث لا تدري، وسّعت قاعدة المشاركين في الاحتجاج السياسي إلى مناطق معظمها لم تعتد المشاركة أو التعبير عن موقف، ولكن الأنظمة القائمة تتبع سياسة أن لكل يوم همومه، وكل ما يقبل التأجيل يكون مكسباً.
وفي مصر كما في سواها، طُرحت في ما طرحت بمناسبة غزة، مسألة الأوضاع المحلية القائمة، بوصفها عائقاً لم يعد من الممكن تأجيل النظر فيه، أو التعايش معه، أو الالتفاف عليه إذا ما أريد تحقيق توازن استراتيجي مع العدوانية الإسرائيلية في طورها الراهن. تدرك الأنظمة ذلك قبل القوى المعارضة. انطلقت مقارنات بعضها عفوي، وبعضها الآخر مفتكر وإن جنينياً، بين الواقع الراهن والتفاعلات التي أدت إلى تغيير الأنظمة عقب 1948. تطمئن السلطات القائمة إلى كثرة الاختلافات بين اللحظتين. تعتمد على مبلغ الوهن في أوضاع القوى السياسية المعارضة، وتراهن على مقدار الإنهاك المتعدد الأوجه الذي ترزح في ظله مجتمعاتها. ولكنها تعرف مبلغ الهوّة التي تفصلها عن الناس، وأن هذه الهوّة قد ازدادت عمقاً واتساعاً بفعل الأداء الرسمي العربي المشين أثناء العدوان على غزة. تعرف أنها سلطات باتت عارية بلا أي نوع من الشرعية. جربت كل الترقيعات ـــــ التحويرات الممكنة: سنّة وشيعة، نفوذ إيراني، اعتداء على الذاتية المحلية (عظمة مصر أو السعودية). ثم هوّلت بأن خلاف سياساتها توريط وخراب... ولكن أثر كل ذلك بقي محدوداً، وبقي الصدع كاملاً.
وها هي مصر تقع ضحية الإرهاب الذي يعود إلى استهداف السياح. يأتيها منهم كل عام 13 مليون سائح يوفر ما ينفقون 11 بالمئة من الدخل القومي المصري. للتذكير: ما زالت قناة السويس المؤمّمة توفر 25 بالمئة من الدخل القومي! قناة السويس التي أمّمها عبد الناصر وسبّب تأميمها العدوان الثلاثي. ليس للقول بعدم أهمية السياح مصدراً للدخل، ومستخدماً لأكثر من 12 بالمئة من اليد العاملة المصرية، وإنما لوضع الأمور في نصابها. ثم يشار إلى اختفاء الأعمال المماثلة منذ تفجيرات منتجع دهب في سيناء في نيسان 2006، ما يوحي بأن عودة الإرهاب مرتبط بأحداث غزة الأخيرة، وإلا فماذا عدا مما بدا؟
ليس المقصود تبنّي فرضية وجود سيناريو مؤامراتي وراء الانفجار الأخير، أو اعتباره مفبركاً لاستدرار العطف بل والمساعدة الدوليين في «الحرب على الإرهاب». فهذه لم تعد على الموضة كفاية، ولم تعد تدرّ الأرباح السابقة! رغم أن تسيبي ليفني كانت قد أعلنت من باريس، بعد أيام قليلة من بدء العدوان على غزة، أن إسرائيل تقف في مقدمة العالم المتحضّر في النضال ضد الإرهاب، ولذا فعليه دعمها. وللتذكير، ولأن قصر الذاكرة هو إحدى حاضنات العدوانية الاستعمارية، فإن ليفني إياها كانت قد أعلنت عملياً بدء الهجوم على غزة أثناء زيارتها للقاهرة.
فلعلّها، رغم ذلك، ليست أعمالاً استخبارية مفتعلة... من يدري. وإنما للقول إن التردد في إدانة تفجير القاهرة الأخير وأمثاله، يخدم فقط قوى العدوان بمختلف عناوينها. ليس من مصلحة النضال الفلسطيني ولا يخدم التضامن معه، ولا يخدم قضية هزيمة أعدائه، ما جرى في القاهرة... علماً بأن أي جهة لم تتبنّ هذا التفجير ولم يصدر أي بيان، ورغم ذلك تمّ الربط!