ناهض حتر *في 25 شباط الجاري، يعقد الحزب الشيوعي اللبناني مؤتمره العتيد. ولهذا الحزب، على المستوى العربي، مكانة رمزية قوية رغم أن دوره السياسي والثقافي في حقبة السبعينيات والثمانينيات لم يعد قائماً. ولعل أول ما ينبغي للرفاق اللبنانيين إدراكه، هو استحالة إحياء ذلك الدور الذي بات ممتنعاً في بلد عربي واحد، وأصبح، بحكم جملة من المتغيرات، مرتبطاً بقيام فدرالية لليسار في المشرق العربي، سيكون إنشاؤها رافعة للأحزاب الشيوعية واليسارية في كل بلاد المشرق ومنها لبنان. ونحن نأمل أن يؤخذ هذا الاقتراح بوصفه مهمة يتضافر فيها البعدان المحلي والعربي معاً.
هناك أولاً هدف عملي من وراء توحيد جهود اليسار المشرقي. فحالات الانتعاش الجزئية التي يعيشها هذا اليسار في كل بلد على حدة، متفاوتة، لكنها جميعاً جنينية. ومن شأن إنشاء شبكة موحدة فيما بينها، أن يضاعف قوتها على الصعيد الإقليمي كما على الصعيد المحلي. وعلينا أن نلاحظ هنا، أن نشوء فضاء إعلامي عربي موحد، بسبب الدور المتنامي للفضائيات والنشر الإلكتروني، يفسح في المجال أمام مداخلة يسارية تفرض نفسها على المستوى العربي. كذلك، فإن التضامن اليساري العربي الفعال والديناميكي، من شأنه أن يدفع بالمزيد من الشباب للانخراط في صفوف الأحزاب المحلية، كما من شأنه أن يوفر الحماية والدعم المتبادلين.
غير أن الفدرالية اليسارية المقترحة مطلوبة، ثانياً، وبإلحاح شديد، لاعتبارات فكرية وسياسية لا غنى عنها لانطلاق اليسار العربي مرة أخرى. فما يعانيه هذا اليسار، قبل كل شيء، هو غياب المرجعية الفكرية ـــــ السياسية. ففي فترة ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي، كانت المرجعية السوفياتية تؤدّي دور الناظم لسياسات الأحزاب الشيوعية العربية.
ورغم نقدنا الجذري للمضامين الفكرية والسياسية لتلك المرجعية، فإن وجودها كان يوحّد أحزاباً ومثقفين وفعاليات محلية في تيار عربي واحد يمثّل في مجموعه قوة لم يكن بالإمكان تجاهلها. بل إنها كانت تمنح أحزاباً صغيرة، في هذا البلد أو ذاك، حجماً نوعياً يتجاوز قدراتها المحلية.
منذ مطلع التسعينيات، لم تعد هناك مرجعية للشيوعيين واليساريين العرب. وتفرقت مواقف هؤلاء خبط عشواء، كل يغني على ليلاه. فقد التحق قسم منهم، من دون أن يتخلى عن انتسابه اليساري، بالليبراليين والليبراليين الجدد، وبالإسلاميين، والقوميين، وبالقوى المحلية على تلاوينها. وعدد كبير منهم انخرط في منظمات ما يسمى المجتمع المدني العائشة على التمويل الأجنبي، بل إن بعضهم، كما هي حال قيادة الحزب الشيوعي العراقي، التحق بالمشروع الأميركي، وانخرط في هيئات الاحتلال السياسية، مصمّماً في الوقت نفسه، على أنه لا يزال شيوعياً.
وللمفارقة، فإن اليساريين العراقيين المعادين للاحتلال الأميركي ونظام المحاصصة الطائفية في العراق، المتجهين إلى عقد مؤتمر لهم في جنيف في آذار المقبل، اضطروا إلى تمييز أنفسهم بـ«اليسار الوطني». كذلك فعل اليساريون المناضلون ضد الليبرالية الجديدة والوطن البديل في الأردن.
المرجعية المقترحة، خلافاً للمرجعية السوفياتية الآفلة، هي مرجعية طوعية ـــــ ولا أقول «ديموقراطية» بالمعنى الليبرالي. فالمرجعيات لا تتأسّس بحوارات مفتوحة ولا بحق الاختلاف والتعددية الفوضوية، بل تتأسس على المبادئ. والمبادئ غير قابلة للتغيير أو التجزئة، فكيف ينشأ اتحاد قوى وأحزاب وشخصيات يسارية على جملة مبادئ أساسية تحدّد بمجملها، وبصورة صارمة مَن هو اليساري.
يمكن تعداد هذه المبادئ مع تلافي ما يسمى «حوارات» أصبحت مكرورة مملة وبلا طائل، سوى السماح لما يُقال له «تعددية»، وهو في الحقيقة رخاوة تمنح أياً كان، باتخاذ الموقف الذي يريد مع الاحتفاظ بكونه «يسارياً» معترفاً به.
ــ اليساري هو المناضل المرتبط بقضايا الفئات الاجتماعية الكادحة والمفقَرة والمهمّشة. وأولويته المطلقة ومنطلقه في فكره ونشاطه وتحالفاته هما النضال الاجتماعي ـــــ السياسي، أي الطبقي. وهذا التوصيف بديهي تماماً. إذ إن الذي يجعل البعد الوطني أولويته ومنطلقه يعدّ وطنياً، أما الذي ينطلق من أولوية البعد الديموقراطي فهو ديموقراطي. ولا يعني ذلك أن اليساري يتجاهل هذين البعدين، ولكنه يعني: أ ــ أنه ينظر إليهما من وجهة النظر الاجتماعية أولاً، ويحدد تحالفاته فيهما على أساس اجتماعي. ب ــ أن دائرة النشاط النضالي الأولى، بالنسبة إلى اليساري، هي العمل على تنظيم الفئات الكادحة والمتضررة من الرأسمالية الليبرالية في حركات اجتماعية نضالية للدفاع عن مصالحها.
وبذلك فقط، يمتلك اليساري القاعدة الاجتماعية الجماهيرية للتأثير في مستويي النضال الوطني والديموقراطي، وإلا فلسوف يجد نفسه ملحقاً بقوى وطنية وديموقراطية من موقع التبعية. وعلى سبيل المثال، فإن قوى مثل حزب الله في لبنان و«حماس» في فلسطين والإسلاميين في الأردن، هي قوى وطنية. لكنها مستعدة، فكرياً وبنيوياً، للتعايش مع الرأسمالية الليبرالية.
كذلك، فإن القوى الديموقراطية ـــــ الليبرالية في هذه البلدان، مستعدة للتعايش، بل للتحالف مع المشروعين الأميركي والإسرائيلي. المداخلة اليسارية هي مداخلة ثالثة تبدأ من الاجتماعي، فتتضح بوصلتها في قضيتي الدفاع الوطني والإصلاح السياسي.
ــ اليساري اشتراكي. وليست اشتراكيته مجرد «عقيدة»، بل برنامج نضال أيديولوجي وسياسي وتعبوي. لا يسار من دون إعادة الاعتبار للاشتراكية، لا كهدف طوباوي في ذمة تاريخ مقبل غامض، بل كهدف للنضال اليومي التراكمي.
البديل الاشتراكي هو الذي يمنح اليساري شرعية وجوده السياسي، ويسلّحه بالمثال اللازم لكل قوة سياسية ذات صدقية. والاشتراكية اليوم، في ضوء الأزمة العاصفة التي تنوء تحتها الرأسمالية العالمية، أصبحت هدفاً واقعياً لنضال واقعي. ولم يعد هناك، من حسن الحظ، مرجعية واحدة لنموذج اشتراكي مقدس. ويمكن كلّ تيار يساري إقليمي أو قطري، ابتداع برامجه المرحلية المرتبطة باشتراكية تلائم مستوى التطور المحلي، لكن على أساس ربطها، من دون تهاون، وعلى مستوى النضال اليومي، بالتعبئة والدعاية الاشتراكية.
ــ اليساري علماني، وبلا مساومة. سواء على المستوى الفكري أو على المستوى الدعوي التعبوي أو على مستوى الممارسة السياسية. على اليساري أن لا يقدم أية تنازلات في هذا المضمار من أي نوع، إلى التيارات الإسلامية، حتى لو كانت وطنية.
ــ اليساري ــــ وهذا يحدد شرعية وجوده ــــ معادٍ عداءً لا رجعة عنه للرأسمالية العالمية وللنموذج الرأسمالي الليبرالي، وبالتالي للإمبريالية والاستعمار والتدخل الأجنبي في الشؤون الوطنية. ومن واجب اليساري قبل سواه، أن يتجاوز كل المصاعب، لخوض الكفاح المسلح ضد الاحتلال الإمبريالي والصهيوني لأرض وطنه.
ــ اليساري معاد، كلياً ونهائياً، للمشروع الصهيوني والدولة الصهيونية، ويرفض كل شكل من أشكال التسوية معها لا يقود إلى عودة اللاجئين الفلسطينيين الحرة إلى أرض وطنهم وإعادة إحياء اندماج اليهود في فلسطين موحدة ديموقراطية على أساس المساواة والأخوة.
ــ بإمكان اليساريين تأسيس منظمات حزبية واجتماعية وثقافية ومنابر إعلامية متعددة في بلد واحد، ولكن في سياق الاستراتيجية اليسارية لا في سياق الاستراتيجية الغربية الليبرالية لما يسمى منظمات المجتمع المدني الممولة من الغرب.
ــ إن ضرورة التحالفات المحلية لا تسمح لليساري بتجاوز استراتيجية اليسار الموصوفة أعلاه.
ــ على اليسار العربي أن يحدد برامجه ونضالاته بوصفه تياراً واحداً متعاضداً على الساحة الإقليمية، بحيث يحدد الاتجاهات العامة للمداخلات اليسارية في القضايا الإقليمية، ولا يمكن أن يكون يسارياً مَن يقيم تفاهمات إقليمية تضرّ بمصالح القوى اليسارية في بلد ثان.
ــ على اليساري العربي أن يقبل طوعاً، التزامه بخط الفدرالية اليسارية العربية، ومواقفها، وقرارات قيادتها، كأولوية على خط ومواقف وقرارات الحزب المحلي.
ولكن، لماذا مقترح فدرالية لليسار في الهلال الخصيب، لا في العالم العربي؟ ليس لأجل إضافة انقسام إليه، بل لتقارب البنية والهموم؛ فقضايا المشرق هي القضايا الساخنة المطروحة التي تتطلّب عملاً فوق ـــــ قطري (فلسطين، اللاجئون، العراق، التهديد الإسرائيلي لسوريا واحتلال الجولان، مشكلة الوطن البديل في الأردن، الانقسامات الطائفية والمذهبية والإثنية...). وهذه القضايا متشابكة وتؤثر بينياً في إطار خصوصية إقليمية. وعلى سبيل المثال، فإن معاهدة كامب ديفيد أخرجت مصر من مرمى الصراع العربي ــــ الإسرائيلي. لكن مساعي الأردن المشابهة في معاهدة وادي عربة لم تقد إلى نتيجة مماثلة لأسباب جغرا ــ سياسية وديموغرافية. كذلك، فإن قضية الانقسام المذهبي، الشيعي ــــ السني، متشابكة بين العراق ولبنان والخليج. التهديد الإسرائيلي لا يطال مباشرة، سوى فلسطين ولبنان وسوريا والأردن. انتصار الرأسمالية الليبرالية في سوريا، كبلد مركزي في المشرق، سوف يضر بقضية اليسار في الإقليم كله. تحرير ووحدة العراق قضية مشرقية بامتياز، وتؤدّي دوراً مباشراً في التطورات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في سوريا والأردن. قضية اللاجئين هي قضية محلية، تحديداً، في الأقطار الشامية. والمشرق يتكوّن، بخلاف مصر وشمال أفريقيا، من مكونات دينية وطائفية ومذهبية وإثنية متنوعة للغاية. ومن الضروري هنا الانتباه إلى أنه، في حالة النظر إلى المشرق بوصفه إقليماً، فإننا سنلاحظ تواً أنه لا توجد أغلبيات. فالهلال الخصيب هو مسيحي بقدر ما هو مسلم، وهو شيعي بقدر ما هو سنّي، وهو علماني بأكثر مما ديني (بخلاف مصر والمغرب والسعودية)، وعربي متحضر متجذر بما يسمح للإثنيات بالاندماج والاستعراب التلقائي الديموقراطي. كذلك، فإن تطور القوى المنتجة والنخب المتعلمة والتقنية والمثقفة، متقارب واعلى من سواه على المستوى العربي.
وأخيراً، فإدارة العلاقة مع القوتين الإقليميتين، إيران وتركيا، رغم أنها تعني العالم العربي كله، إلا أنها تظل قضية محلية بالدرجة الأولى، بالنسبة إلى العراق وسوريا.

* كاتب وصحافي أردني