يسافرون لمتابعة دراساتهم الأكاديمية والبحث عن فرص عمل أفضل، فيواجهون مجتمعاً مختلفاً. أما أبرز أوجه الاختلاف فمصادفة أشخاص يعتبرونهم أعداءً في وطنهم. نادراً ما تتغيّر النظرة إلى الآخر: كيف يتعامل الشبان اللبنانيون مع يهود أوروبا والإسرائيليين هناك؟
أحمد محسن
يغادر معظم الطلاب اللبنانيين إلى جامعات أوروبا مشبعين بقلق ممزوج بانبهار مسبق بـالحضارة المفترضة. يعود ذلك إلى الأفكار المتواترة في ذاكرتهم، التي ترسم صوراً مختلفة للمجتمعات الأوروبية. يصادفون حوادث غير متوّقعة، فيجدون أنفسهم مع أشخاص يبادلونهم العداء سلفاً، وخصوصاً في الجامعات، حيث يصعب التهّرب من الاختلاط. لكن معظمهم ينجح في تنظيم الاختلاط بالـ«آخرين»، ضمن الحدود المعقولة وفقاً للعقل الأوروبي.
تحاول الإدارة الفرنسية مثلاً أن تحافظ على صورة الدولة العلمانية، لكن الأحداث العالمية تتسلل إلى أروقة جامعاتها بسهولة. هنا يصعب إغفال المشاكل، فالطلاب اللبنانيون يخشون «أن يكون الأستاذ المحاضر يهودياً»، يقول أحدهم. «الخوف فطري وينتج تلقائياً»، يعلّق هاشم المقيم في بروكسل والذي مرّ على جامعات فرنسا في السابق. هناك لا يعرّف المحاضر الطلاب بديانته، لكن اسمه يوحي للبنانيين بأصوله، فهم يعرفون الكثير عن «إسرائيل». هذا ما رواه بلال محيي الدين الذي يمضي سنته الأخيرة في دراسة الفيزياء، عندما تعّرف إلى أحد الأساتذة، واسمه «آمنون ياريف»، وضيّق عليه الأخير بـ«طريقة لا تطاق». ثمة يهود يرغبون بأن يعم السلام في الشرق الأوسط، من دون أن يخوضوا في تفاصيل الحرب، فلا يكلّفون أنفسهم عناء التفرقة بين المعتدي والمعتدى عليه، هم يرغبون بـ«السلام» وحسب. يقول حسين جفال الذي يعمل في غرونوبل ـــــ فرنسا ويعترف بأنه يميّز بين معتقدات الناس، وعدائه الطبيعي لإسرائيل. يعطي مثالاً، رب عمله الإيطالي، الذي يدين باليهودية، وتجمعهما نقاشات «ساخنة» تتعلق بالصراع العربي ـــــ الإسرائيلي. لكنهما لا يلبثان أن يقعا كلاهما في نقطة اختلاف جذرية. فالحل، برأي صاحب العمل، يكمن في دولتين إحداهما إسرائيلية وأخرى فلسطينية، بينما لا يوافق حسين نهائياً على أي وجود للأولى. «طبعاً نقاشاتنا لا تقف عند هذا الحد»، يقول حسين. ويشرح المواد الدسمة لحواراتهما، كالإسلام السياسي، والتجاذبات المستمرة في العالم، كما يعترف يأن كليهما متشائم، ولديه حلوله الخاصة والمعقّدة. «لكن الرجل ذكي»، يتابع حسين، ويذكر حين سأله عن حقيقة الأسير المحرر سمير القنطار «هل كان إرهابياً بالفعل؟»، لكونه يحترم مشاعره ولا يتجرأ على أن يعلن كرهه الشديد لحزب الله، وهو الأمر الذي يعرفه حسين جيداً، ويعرف أصدقاء عرباً ولبنانيين كثيرين، يضطرون إلى تخطيه في علاقتهم باليهود الأوروبيين.
يصف عامل لبناني آخر رب العمل هذا بالليبرالي، إذ تسيطر أعماله على طبيعة علاقاته، «وهي فكرة نمطية شائعة في مجتمعاتنا عن اليهود». وفي هذا الصدد يقول علاء زميل حسين في العمل: «أعطه عملاً جيداً يعطك أتعابك مع باستا». لا يعاني الرجل حساسية تجاه العرب أو المسلمين، لكن المشكلة التي يصعب على علاء تفسيرها، هي «الخوف الفرنسي من اليهود»، ومحاولة إرضائهم بشتى الطرق، من دون أن يثبت ذلك بقرائن ملموسة، إلا أنها حالة يسهل ملاحظتها. «ربما ندم على المحرقة الشهيرة»، يتكهن علاء، مذكراً بالقانون الذي حاول الرئيس الفرنسي إقراره، والقاضي بتدريس فصول الحادثة في المناهج الابتدائية، وتراجع تحت ضغوط شديدة كي تبقى المحرقة مادة إعلامية دسمة.
يرفض خليل شعيتاني أن ينسحب العداء على الأفراد كي لا يُتّهم اللبنانيون بالعنصرية، لكنه لا يتحدث مع «مناصري الصهيونية» في السياسة ويتحاشى لقاء حملة جوازات السفر «الإسرائيلية». جمال المقيم في ليون، قال ما هو أكثر من ذلك: «المتعصبون للصهيونية يضيّقون على اللبنانيين بصورة خاصة»، لما يتمتع به اللبنانيون من تمايز عن العرب في كنف فرنسا تحديداً، من دون أن ينفي أن الجامعات الفرنسية تحمي الجميع، وترفض أن تنسحب مشاكل الشرق الأوسط على جامعاتها. التقى جمال بناشطين «معتدلين» فوجدهم «يعارضون طريقة إسرائيل في العنف، إلا أن أحداً منهم لم يعارض عنصرية إسرائيل من أساسها»، يقول.
أما الفتاة التي تعرّف إليها حمزة في إحدى سهرات بروكسل فبدت لطيفة بالفعل، لكنه عندما علم أنها «إسرائيلية»، توتر فجأة. «رفضت عيناي النظر إليها»، يقول ويعلن بلا تردد «بادلتني مشاعري حين عرفت جنسيتي».
قبل أعوام، اندسّت طالبة من دولة أوروبية في أروقة البيت اللبناني الجامعي في فرنسا. ترشحت بعد أشهر عن منصب الأجنبي في مقاعد البيت السبعة، لأن القانون ينص على أن يكون الستة الآخرون لبنانيين. اكتشف الطلاب لاحقاً أنها إسرائيلية. وقّعوا عريضة لطردها بأسرع وقت، ونجحوا.


لا مكان للسياسة

تعرّف خليل شعيتاني، المقيم في لوفون جنوب بلجيكا إلى صديق يهودي غادر أخيراً إلى بيت لحم. رفض خليل مراراً أن يناقش موضوعات سياسية مع صديقه، لأن الاختلاف بينهما سيقع لا محالة. لكنه طلب منه أن يحدثه عن تجربته حين يعود من دياره. طلب منه أن يحضر له حفنة من تراب فلسطين.