Strong>حسين بن حمزةشخص مثل عاصم سلام، لن يكون في مقدورك أن تراه إلا مفرداً بصيغة الجمع بحسب عنوان ديوان شهير لأدونيس. الرجل ينحدر من عائلة «آل سلام» البيروتية التي صنع بعض أفرادها صورة لبنان وتاريخه. جدُّه سليم سلام كان أبرز زعماء السنَّة. طالبَ بعروبة لبنان داخل السلطنة العثمانية. وعارض إنشاء «لبنان الكبير» وفصله عن سوريا الكبرى. أما والده علي سلام الذي درس في الكلية السورية (الجامعة الأميركية اليوم)، وعاد حاملاً شهادة في الهندسة الزراعية من إنكلترا، فكان يكتب الشعر واليوميات. لم يكن مهتماً بالشأن العام، ولم تكن لديه طموحات سياسية، باستثناء فترة قصيرة قضاها سكرتيراً للملك فيصل.
داخل هذه البيئة نشأ عاصم سلام. «تربّيت في جوّ كان فيه والدي يذهب إلى حمص والقدس وبغداد، كما يذهب المرء اليوم إلى صيدا وطرابلس. نصف آل سلام تزوجوا بسوريات وفلسطينيات، وزوجتي الأولى كانت مقدسية. كنا مسلمين، لكن بلا تزمُّت. لا أتذكر أن أحداً أجبرنا على أداء الفروض. جدّي أرسل والدي إلى إنكلترا ليدرس الهندسة، لا إلى اسطنبول أو القاهرة. ووالدي نفسه لم يرسلني إلى «المقاصد»، بل درست في الإرسالية الفرنسية و«الإنترناشيونال كولدج». ثمّ درست العمارة في كامبردج».
لماذا العمارة؟ أسأله. «اختياري كان نتيجة احتكاكي مع أصدقاء والدي في فلسطين حيث كنت أصحبه في زياراته. هناك تعرّفت إلى جبرا إبراهيم جبرا الذي كان قد أنهى دراسته في كامبردج، ويعمل مدرساً في الكلية العربية في القدس. وهو من كتب رسالة توصية بي إلى عميد كليته في كامبردج». في إنكلترا، بدأ جانب أساسي من شخصيته بالظهور، وهو اهتمامه بالفن التشكيلي واقتناء الأعمال الفنية. لا يزال يحتفظ من سنواته الإنكليزية بمنحوتات ولوحات لهنري مور وغراهام ساذرلاند وجون بايبر.
بعد عودته إلى بيروت، أسس مع ريمون غصن قسماً للعمارة في الجامعة الأميركية، ودرّس فيه حتى عام 1977. أسأله عن منجزاته، فيبتسم: «صممتُ بناية بان أميركان، وبنك إنترا، والسفارة العراقية التي فُجِّرت عام 1982، ووزارة السياحة ومبنى الإذاعة، منزل الرئيس كميل شمعون في منطقة السعديات، ومبنى مجلس الوزراء الذي صار مقراً لوزارة الداخلية... الأعمال التي أنجزتها قليلة مقارنة بأبناء جيلي. والسبب أني ركَّزتُ على مكتبي الهندسي، فضلاً عن انهماكي بأعمال وقضايا عدّة». شهرتُهُ مهندساً معمارياً لم تشغل كلَّ حياته، بل كانت جزءاً من انخراطه في الشأن العام. لا ننسى أن عاصم سلام عاصر الحقبة الشهابية، وكان عضواً في «مجلس التصميم الأعلى» و«المجلس الأعلى للتنظيم المدني» (1962 ـــــ 1977). واللجنة الرباعية لإعادة إعمار وسط بيروت (1977 ـــــ 1986)، ونائب رئيس لجنة توسيع مرفأ بيروت وتطويره (1972 ـــــ 1986)، فضلاً عن عضويته في لجنة «متحف سرسق»، وعمله في جمعية «أبساد» المهتمة بالحفاظ على التراث المعماري.
تزامن عمله مع محاولة مجهضة لتأسيس دولة وفق أسس وقوانين، ثمّ جاءت الحرب الأهلية لتخرِّب كل شيء. يستعيد صاحب «في العمارة والمدينة» حلماً قديماً: «شهد لبنان فورة كبيرة بعد الاستقلال. حاولنا وضع البلد على الطريق الصحيح، وكان لهذه المحاولة جانبها المعماري أيضاً. كان هناك جهل بالفضاء المديني لا يزال مستمراً حتى اليوم». البيئة المعمَّرة في بيروت على قدر من العشوائية نقول. «يصفونها بالعشوائية والفوضى، لكن كل هذا منظَّم بقوانين تُدير التشوُّه الذي يحيط بنا. الخطأ في القوانين. وضغوط أصحاب المصالح تقف في طريق أي تغيير محتمل». انفعاله يدفعنا إلى مزيد من التورّط: هذا يشوِّه هوية الفضاء المديني في بيروت؟ يتصاعد انفعاله: «لبنان كله بلا هوية، لا العاصمة فقط. اللبناني يتصرف بعقلية نفعيّة و«مركنتيلية». لا يرى عقاره ضمن صورة المدينة ككل. ما يهمه هو مصلحته الخاصة، ولو أدى ذلك إلى تشويه صورة المدينة كلها. المشكلة أن هذه النظرة موجودة في أعلى سلطة عندنا. الهوية والذاكرة والتراث... هذه مفاهيم غير مقدَّرة من الدولة. لا أخفي أن لدي إحباطاً شديداً. بعد كل ما بذلناه من جهد في التعليم ووزارة التصميم وهيئة التنظيم المدني والممارسة المهنية... الحصيلة هي صفر. أشعر بالخجل لأني أدّيت دوراً في التنظيم المدني. اعترضت وحاربت وحاضرت وألَّفت كتباً، وفشلت». لكن بعضهم يبرّر هذا بضرورة التجديد والحداثة، لهذا تكثر الأبنية الباطونية أو الملبَّسة بالزجاج؟ «وهل الدول التي تحافظ على هويتها وتراثها المعماري غير حديثة؟ أنا لست ضد التطور. لست ضد استعمال الباطون أو الزجاج. أنا ضد استخدام هذه المواد في إنجاز تصميمات قبيحة أو متعارضة مع جوارها المعماري. المشكلة موجودة في ذهنية المهندسين لا في المادة». يستعيد المحاضرة العاصفة التي تحدّث فيها أدونيس عن بيروت فضاءً مدينياً مشوَّهاً، مستغرباً أن يُهاجَم الرجل لأنه قال حقيقةً نعرفها جميعاً.
الحديث مع عاصم سلام لا يكتمل من دون ذكر معارضته العنيفة لمشروع الرئيس الراحل رفيق الحريري، أي إعادة إعمار وسط بيروت بالطريقة التي نفذتها شركة «سوليدير»، والزخم الذي أضيف إلى تلك المعارضة بانتخابه نقيباً للمهندسين. هل لا يزال يرى الوسط «مجزرة معمارية» و«جزيرة ثراء في وسطٍ محروم»؟ أسأله متوقِّعاً الجواب، فيقول بمرارة: «وهل تراها غير ذلك؟ للأسف، كل ما حذَّرنا منه تحول إلى واقع ملموس. المشكلة الأساسية في مشروع «سوليدير» هي تجاهله لأهميّة توحيد شطري بيروت، ومنعه عودة أهل الوسط إليه. النتيجة أن الوسط بُني من أجل الأغنياء، ليس أغنياء لبنان، بل أغنياء الخليج».
في السنوات الأخيرة، بات الرجل الثمانيني يقضي معظم وقته في منزله القديم والهادئ، متلذذاً بإنجاز تصميمات قليلة ينتقيها حسب مزاجه، فضلاً عن هوايته باقتناء السيارات القديمة. لديه ثلاث سيارات مرسيدس، لكنه لا يستعملها إلا أيام الآحاد حيث تخفُّ زحمة السير. بالنسبة إليه، الخروج والتجوال في بيروت يعني مزيداً من الأذى البصري. أما في السياسة، فهو لا يزال عضواً في «حركة التجدد الديموقراطي». وحين أستغرب بقاءه فيها رغم تحالف الحركة مع كل من كان يعارضهم، يتنهَّد ويقول: «حالياً... أنا موجود فيها بالاسم. عضويتي معلَّقة تقريباً. يُحرجني أني محسوب على حركة لم أعد أشاطرها اقتناعاتي. وفي الوقت نفسه لا أريد أن أؤذي صداقتي الشخصية مع نسيب لحود».
حين ندقق في سيرة عاصم سلام، نجد أنه جمع فيها بين الإرث السياسي لجدِّه وميول والده الفنية. وحين نلاحظ على جدار عُلِّقت عليه محنّطاتٌ لرأس أسد وناب فيل ورأس غزال بقرنين طويلين... يوضح ضاحكاً: «هذه ذكريات من رحلات صيد في تانزانيا وكينيا». رغم حياته المزدحمة، وجد عاصم سلام وقتاً للصيد في كينيا أيضاً. إنّه حقّاً «مفرد بصيغة الجمع»!


5 تواريخ

1924
الولادة في بيروت (بريطانيا)

1950
تخرَّج من جامعة كمبردج في إنكلترا

1954
أسسّ مع ريمون غصن قسم الهندسة المعمارية في «الجامعة الأميركية في بيروت»، حيث درّس حتى عام 1977

1995
صدور كتابه «في المدينة والعمارة» عن «دار الجديد»، وانتخابه نقيباً للمهندسين حتى 1999

2009
ما زال عضواً (بالاسم) في «حركة التجدّد الديموقراطي» لكي لا يؤذي صداقته الشخصية مع نسيب لحود