حور الموسويسرّهم أنّهم يَموتون ولا يَموتون، متشابِهون إلى درجة ذوبان الألوان في قوسِ قزح. ذاكَ الذي لم يعد يُرى مِن زحمة أقواس الانكسارات العربيّة. انكسارِ زعامات وانكسار أوطان وتمزيق شعوب باتت قضيّتها الأولى تحقيق الوحدة الوطنيّة في الوطن الواحد. وقف اقتتال الإخوة في حضن الأمّ والبحث عن العروبة في معاجم غربية، أصبحت مُقرّرة على تلاميذنا ومسؤولينا وسياسيّينا ووعّاظنا ومفاصل عظامنا.
ماتَ جوزف سماحة، الصحافي السياسي المحلّل. كفٌّ أخرى أحرقت الجمر طيلة عُقود. إيمان بقضايا أُمّة ظلّ إيماناً رغم زيف المبشّرين بالعالم الواحد، والشرق الأوسط الكبير والإنسان العربي الذي صغر واضمحل حتى باتَ يُطوى كوَرقةٍ، ويستقر في جيب عسْكريّ مُحتمل.
كُنا نقْرأه في «السفير» عندما كان السّفير الصهيونيّ يبحث عن شقّة بَعيدة عن المَخاطر الأمنيّة في عاصمةٍ تلو أُخرى. تُضيء لَنا رُؤياه ما كانَ يُغطّيه سَواد حبر المعاهدات والاتفاقيات في الشوارع والحارات والنفوس. وعندما نَتعب، نرتاح على ناصية تعبه المفتوح من أوّل النّهار إلى آخر عنوان في «الحياة»، وأخيراً في «الأخبار».
تُتابع شريط أخبار «الجزيرة». ترى الخبر ولا تَراه. ننتظر حتى يمرّ ثانيةً، ليؤكّد أنّ جوزف سماحة مرّ هو الآخر إلى العالم الآخر. أُهاتف من مكاني في بيروت لأتأكّد. تَجدُني مُتّكئة على كتف الحزن. ما هَذه الحياة؟ يَرحلون واحداً تلو الآخر، صديقاً وراء صديق... لا أستطيع أن أُصدّق.
فجأةً، انكسر قلم جوزف. تراشق الحبر الأخضر علينا جميعاً في الصحف العربيّة. رحنا نُلملمه. منْ يكتب خبر وفاة من كان صديقاً عن بُعد وعن قُرب.
موْتٌ خطف الحُلم. حزنت سماء بيْروت. بكت مطراً كأنّه غسول الوداع وبَخور جنازة قدّيس يظلّ مكتبه، فكره في صُحفنا وأذْهاننا وقُلوبنا. قمّ تظلّ تلك الجمرة التي أخيراً أحرقت من أحرقها. نتلقّفها تُدفئنا، فثمّة كثير من الحبر والورق وقليل من الأوطان التي لمْ تُسرق ولم تُحتلّ.