عساف أبورحالعلى إحدى هضاب العرقوب، بين بلدتي الماري وراشيا الفخار، كانت تقوم ذات يوم قرية اسمها «الخريبة»، تشرف على شمال فلسطين المحتلة، ويعتاش سكّانها الذين قارب عددهم 500 نسمة، على مواسم الزيتون والتين، ومن تربية المواشي. قرية سوّيت بأرض غزتها أشجار السنديان والملول، بعدما هجّر سكانها على مراحل.
لم تعرف الخريبة المدرسة الرسمية على الإطلاق، ولم تشمّ رائحة «زفت» الطرقات، بينما لم تعرف أضواء الكهرباء، سوى قبل أشهر قليلة من التهجير الذي تعرّض له أهلها ومن التدمير الذي لحق بها.
بدأت معاناة أهالي هذه القرية، كما يشرح زهير دعبوس، في أواخر الستينيات من القرن الماضي، خلال عامي 1968 ـــــ 1969، إثر الغارات الجوية التي شنّها الطيران الإسرائيلي عليها، ما اضطرهم إلى النزوح عنها واللجوء إلى القرى المجاورة، راشيا الفخار وكفرحمام والخيام. معاناة استمرّت خلال السنوات اللاحقة إذ بقيت القرية عرضة للاعتداءات الإسرائيلية المتقطعة حتى اجتياح عام 1978 وقيام ما سمّي الشريط الحدودي.
يضيف دعبوس: «إن قوات الاحتلال لم تكتف بالخراب الذي ألحقته بمنازل البلدة، بل إنها عملت، بمساعدة الميليشيات المتعاملة مع إسرائيل آنذاك، على تدمير المنازل وجرفها، بما فيها الكنيسة التابعة لوقف الروم الأرثوذكس، وأشجار الزيتون الروماني العتيق التي تشتهر القرية بها».
كان دعبوس يملك في الخريبة منزلاً ومساحات واسعة من الأراضي الزراعية ورثها عن والده، إلّا أن منزله دمّر بالكامل، أسوة بالمنازل الخمسين الأخرى، التي اختفت آثارها، فتعذّر تحديد أماكنها القديمة.
«اعتمد مسح الأراضي في كثير من الأحيان على ذاكرة المسنين من أهالي القرية لتعيين أماكن البيوت التي ضاعت معالمها»، كما يشرح غيث معلوف، معلقاً: «كان المسح وتسجيل الأملاك في الدوائر العقارية خطوة مهمة، لكن بعض الإشكالات ما زالت عالقة لجهة حدود بعض العقارات، فمعظم العائلات هاجرت الى بلاد الاغتراب، ولم يبق منها سوى الفروع وفروع الفروع. وبعدما تقدمت 110 عائلات بطلب لإعادة إنشاء بنية تحتية جديدة، نالت القرية نصيبها من إنشاء محطة تحويل للطاقة الكهربائية مع بعض الأعمدة المعدنية، فيما نفّذت الطريق الرئيسي المؤدي إليها جهة مانحة. أما مسألة التعويضات، فقد تعرقلت بعدما عرض مجلس الجنوب على الأهالي دفع 50 في المئة من قيمة التعويضات، أي ما يساوي 15 مليون ليرة للوحدة السكنية، فرفضوا العرض، ليقفل الملف ويبقى كلّ شيء على حاله حتى اليوم».
يصف معلوف تحركات الدولة تجاه ملف إعادة إعمار قريته بالـ«خجولة»، وخصوصاً أن «أصحاب المنازل وجدوا بدائل خارج قريتهم التي باتت مدرجة على الخارطة الإدارية فقط، فيما الأشجار الحرجية تنمو وتتسع مساحتها على حساب المساحات السكنية».
40 عاماً من العزلة مضت على الخريبة، التي لم يبقَ من منازلها سوى بعض الركام. سنوات «ماتت ناس وعاشت ناس» خلالها، كما قال أحدهم، من دون أن تموت أطلال البلدة.


مزارعون ونهر

تتبع قرية الخريبة قضاء حاصبيا، تحدها شرقاً بلدتا كفرحمام وراشيا الفخار، غرباً إبل السقي والخيام، ويفصلها عنهما مجرى الحاصباني وشمالاً الفرديس وجنوباً بلدة الماري، وقد ألحقت عام 1948 ببلدة راشيا الفخار بعد توالي المخاتير على إدارتها.
سكنتها عائلات منها القلوط، دعبوس، معلوف، علاء الدين، نمر، دخل الله، فارس، وآل الأحمد والخالد، اعتمدت في معيشتها على الزراعة الموسمية للحبوب. كان المزارعون يروون زراعاتهم من مياه الحاصباني، مصدر المياه الوحيد في القرية التي كانت تفتقر إلى شبكات المياه والطرقات، بينما كانوا يتنقّلون على ظهور الدواب والبغال في قريتهم وبين القرى المجاورة.