سعيد ناشيد *تبدو العلمانية اليوم، في مُعظم دول العالم، وكأنها ضعيفة واهنة، مثل شمعة صغيرة في مهب رياح الليلة المَطيرة الشاتية، يترقب خصومها انطفاءها بين كل لحظة ولحظة، يتربصون بها شامتين ناظرين ومُنتظرين. لا يعود ضعف العلمانية ووهنها إلى أي خطر مقبل إليها من خارج أسوار الحضارة الغربية، وفق الرؤية الاستعمارية لبعض اليمينيين المتطرفين في المجتمعات الغربية، أولئك الذين لا يرفعون شعار العلمانية إلا في مواجهة الأصوليات الدينية القادمة من الشرق، أو من ضواحي المدن الغربية، حيث الأقليات، أو تحديداً، ما يسمى بالأقليات.
لا تتعرض العلمانية الغربية اليوم، لأي خطر خارجي أو مؤامرة دُبرت لها من خارج الديار الغربية، بل تكمن أزمة العلمانية في عطبها الداخلي، في طبيعة خطابها، الذي يعاني ازدواجية المعايير، إنها ازدواجية خاضعة لمنطق حسابات القوة والمصلحة، فمن عادة السادة أن يكونوا متسامحين مع أمراضهم، متفهمين لها، وأن يكونوا في المقابل، متحاملين على أمراض العبيد كارهين لها.
وعلى هذا المنحى، فكثيراً ما يبرز الخطاب الغربي علمانيته ويشهرها، في مواجهة الخطر الذي تمثله الأصولية الإسلامية، وقليلاً ما يفعل ذلك، حين يتعلق الأمر بالخطر الذي تمثله الأصوليات المسيحية أو اليهودية أو حتى البوذية التبتية أو غيرها من الأصوليات الأخرى. إن الخطاب الغربي اليوم، لا يبدو يقظاً وجريئاً بما يكفي، أمام الطوائف الدينية التي نشأت داخل الغرب، أو التي تخدم مصالح استراتيجية للدول الغربية، ذلك أنه، في هذه الحالة، وبدل أن يرفع شعار الفصل بين الدين والسياسة، فإنه يفضل عنه شعار الحرية الدينية والتسامح الديني.
إنه لمن الخطأ الجسيم، في حق أخلاق العلمانية، وفي حق الحضارة الغربية نفسها، ألا يتذكر الغرب علمانيته إلا حين يريد أن يواجه ما يعتقد أنه خطر إسلامي. وغير جدير بنخب التنوير الفرنسي، أن تكون يقظة في مراقبة الرموز الدينية، التي من بينها ما يسمى بالحجاب الإسلامي، في المدارس، وتغفل أن محافظات منطقة الألزاس، تُستثنى مدارسها من قانون العلمانية، بدعوى أنها كانت مستعمرة ألمانية، لحظة إقرار قانون 1905 بشأن العلمانية.
وإنه خطأ أيضاً، أن يُثار الحديث عن الخطر الذي يتهدد العلمانية، فقط حين يستدعى طارق رمضان إلى فرنسا، أو يوسف القرضاوي إلى بريطانيا، فيما لا أحد ينبري لحماية العلمانية، حين يحظى البابا باستقبال رسمي من طرف الدولة الأكثر علمانية في العالم.
ولعله غير خليق بنخب التنوير، أن تستنكر غَضْبَة المسلمين، على الرسوم «المُسيئة» لرسولهم، فيما لا أحد منها استنكر محاكمة الممثلة الإيطالية سابينا غوزانتي، تحت طائلة الإساءة لشخصية البابا، ولولا العفو الذي أصدره وزير العدل الإيطالي في حقها، لما كنا ندري كيف ستكون النهاية.
وإن كانت نخب التنوير محقة في دفاعها المُستميت عن سلمان رشدي، تسليمة نسرين، وغيرهما، فإنها غير محقة عندما تغفل عن حرية الإبداع، بعد أن يدين الفاتيكان بعض الأفلام، قبل أن يهاجمها أصوليون مسيحيون، بدعوى التجديف والإساءة «لسيدنا المسيح» أو «لأمنا مريم». إننا بكلمة واضحة، نُسيء إلى قيم العقلانية حين نتسامح مع لاعقلانيتنا نحن صغار العالم، لكننا نسيء إلى قيم العقلانية أكثر، حين نغض الطرف عن لاعقلانية سادة العالم وحين نكتفي فقط، بالاستعاضة عن انتقاد أوهام الكبار بمعارك شرسة ضد أوهام الصغار.
إن العلمانية تحرّضنا بكل تأكيد، على دعم المقاومة ضد السلطة الدينية في إيران، ضد منصب ولاية الفقيه هناك، وضد صلاحيات ولي الفقيه الدستورية، التي تمنحه الحق في تعيين نصف أعضاء مجلس مراقبة الدستور، وهم ستة من رجال الدين، يُضافون إلى ستة آخرين من القضاة الذين يقترحهم رئيس السلطة القضائية، على البرلمان، علماً بأن رئيس السلطة القضائية، هو نفسه، مُعيّن من طرف ولي الفقيه. لعلنا مدعوون إلى الاعتراض على هذه السّلطة الثيوقراطية. ومع ذلك، فإن مقاومة ظلامية العبيد يجب ألا تحجب عنا أولوية مقاومة ظلامية السادة، لأنها صاحبة مشروع كبير ومُمكنات واسعة ونتائج حاسمة على مستقبل الحضارة المعاصرة.
حين نقف ضد تعيين المؤسسات الدينية لرجال دين داخل مراكز القرار السياسي، وليتصرفوا كهيئة تقريرية أو استشارية عليا، فالواجب يقتضي ألا نغفل عن ضرورة انتقاد حالة بريطانيا أيضاً، حيث لا تزال الكنيسة الأنغليكانية تعيّن ما يفوق عشرين من رجال الدين أعضاء داخل مجلس اللوردات، لأننا حين لا ننتقد انحرافات السادة وخرافاتهم، وحين لا نبني عقلانيتنا على أساس مجابهة نواقص العقلانية الغربية ومقاومتها، فإننا نمنح ألف فرصة لمن اعتادوا منا على تبرير لاعقلانيتنا بدعوى أن الغرب نفسه لم يسلم منها، إن لم يمسِ فخوراً بها. والواقع أن المعرفة الدقيقة بالعديد من التفاصيل، تجعلنا نتفهّم، حتى من دون أن نتفق معها، وجهة نظر العديد من المناضلين اليساريين في بريطانيا، الذين يتسامحون مع التطرف الإسلامي، فقط تحت طائلة أنه لا وجود لأي امتياز علماني بريطاني، يمكن الدفاع عنه.
نعم، لقد شنّ الأصوليون الإسلاميون حملة بلا هوادة على سلمان رشدي، تسليمة نسرين وآخرين، وانبرى المفكرون الأحرار، في كل أرجاء المعمورة، للدفاع عن حرية التعبير والرأي، لا سيما بعدما أصدر الخميني فتواه الشهيرة باستباحة دم سلمان رشدي، لكن، لم يكترث سوى القليلين بحرية التعبير والتفكير، حين اعتدت الكنيسة اليونانية الأرثوذوكسية، مرتين، على الكاتب اليوناني نيكوس كازانتزاكيس، فقد منعت في عام 1954\ رواية، تحمل عنوان الإغراء الأخير للسيد المسيح، ولما توفي في عام 1959، لم يجد أصدقاؤه بدّاً من أن يجعلوا مرقده معزولاً، في مدينة يونانية، هي نفسها التي شهدت مسقط رأسه، مدينة، يعود أصل تسميتها إلى العرب قديماً، حين أطلقوا عليها اسم إيراكليو (هيراقليون)، وهكذا قضت الكنيسة أن يكون مرقده الأخير بعيداً عن الأموات، بعدما رفضت أن يوارى جثمانه في ثرى المقبرة، بدعوى أنه خارج عن الملّة. وقد جاء ردّه صادقاً وصادماً، حيث كتبت وصيته على شاهد قبره، باللغة اليونانية: لا آمل شيئاً، لا أخاف شيئاً، فأنا رجل حر.
ربما وجد الحزب الاشتراكي اليوناني خلال مراحل ولايته، فرصة لإنصاف الرجل من بعض ظلاماته، حيث أقام له المسؤولون نصباً تذكارياً، واعتُني بقبره المعزول والشامخ في وجه تكالب رجال الدين والمقاتلين باسم الرب، وسُمي مطار المدينة باسمه، مطار نيكوس كازانتزاكيس، بيد أن هجوم الكنيسة وتهجمها لم يزدد مع مرور السنين إلا ضراوة وقوة، لا سيما بعدما تدهور نفوذ الاشتراكيين والقوى اليسارية والتقدمية، ليس في اليونان وحدها، بل في سائر الدول الأوروبية. بعد حوالى ثلاثين عاماً على صدور رواية الإغراء الأخير للمسيح، حوّل المُخرج السينمائي الأميركي الشهير، مارتن سكورسيز، الرواية إلى عمل سينمائي، أُنجز في المغرب، وذلك عام 1988، لكن لم يسلم بدوره من حملة الأصوليين المسيحيين، التي جاءت هذه المرة أكثر تنظيماً وقدرة على التأثير.
وحين أدان البابا السابق، يوحنا بولس الثاني، الفيلم الذي أخرجه المُخرج الفرنسي جان لوك غودار، تحت عنوان مستوحى من صلاة كاثوليكية؛ «أسلم عليك يا مريم»، ثم هاجمه الأصوليون القادمون من كل فج عميق، لم يتجرأ سوى القليلين للدفاع عن حرية التعبير، في وجه اعتداء الكرسي الرسولي والمنظمات الدينية المتطرفة، على أحد مجالات الفن والإبداع.
إن الحياد الديني هو إبداع من إبداعات الحداثة السياسية، إنه ذلك الجوهر الحداثي الذي يبدو وكأن نخب التنوير فرّطت فيه حين تلكأت أمام خطر الأصوليات المسيحية أو اليهودية، وحين تعاملت برقة مع تدخلات الكرسي الرسولي، في القضايا الطبية، الجنسية، العلمية، وفي قضية توحيد القارة الأوروبية، وحين غضّت الطرف عن حماسة المنظمات والشبكات الدينية، مثل الأبوس داي، العائلة، فرسان مالطا، شهود يهوى، الرؤية العالمية، التضامن المسيحي الدولي، وغيرها، شبكات باتت تخترق معظم الدول الصناعية والمؤسسات الدولية، وتهيمن على وسائل الإعلام، ولا تتردد في طرق أبواب أهم الجامعات والمدارس، لقد صارت تطوّق مراكز القرار، في كل مكان تقريباً، وتساهم إلى حد بعيد، في صناعة الرأي العام.
إن الغرب، من خلال تساهله وتراخيه في مسألة الحياد الديني، إنما يفسح المجال أمام من يسعون إلى انهيار العلمانية من الداخل، أولئك الذين دأبوا على انتقاد مستوى الحرية الدينية داخل الدول التي تدين بالعلمانية، ويرون في مبدأ الحياد الديني للدول وللفضاء العمومي، اعتداءً على حرية العبادة وحرية ممارسة الشعائر الدينية لدى الأفراد ولدى الجماعات، وذلك تبعاً لمنطوق الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
إن تحييد الفضاء العمومي عن المواقف الدينية، التي هي في آخر المطاف مواقف غير قابلة للبرهان، الإقناع والاقتناع، بمعنى أنها لا تخاطب العقل الذي هو المشترك الإنساني الوحيد، يعدّ شرطاً أساساً لتحقيق العدالة. فحين طلبت الولايات المتحدة الأمبركية من المُلا عمر، زعيم الطالبان، تسليم أسامة بن لادن، أطلق جملته الشهيرة: المسلم لا يُسلم المسلم للكافر. وهنا قد يعكس هذا الرد درجة التعصب الديني داخل بعض المجتمعات الإسلامية أو معظمها، لكنه ليس نشازاً في حقل العلاقات الدولية الراهنة، ويكفينا مثلاً عن ذلك أن القانون الإسرائيلي نفسه لا يُجيز تسليم أي مجرم يهودي هارب من العدالة إلى الدولة التي تطلبه، حتى لو كانت الدولة التي تطلبه هي الولايات المتحدة الأميركية نفسها، هذه الأخيرة التي غالباً ما تضطر إلى تليين مطلب العدالة أمام ضرورة احترام المواقف الدينية للإسرائيليين التي تقول بأن اليهودي لا يُحاكم أمام غير القضاء اليهودي.
إن أول شيء يقتل الحياد الديني هو التعاطي الانتقائي مع ذلك المبدأ، ذلك أن الحياد الديني، هو في الأصل والأساس مبدأ لا يقبل ازدواجية المعايير، فإما أن نضمن الحياد الديني للفضاء العمومي، أو أننا سنفتح الباب على المزايدات الدينية، هنا لا مجال للتمييز الإيجابي أو للقول إن الضرورات تبيح المحظورات، وإن للضرورة أحكاماً، وما إلى ذلك من فقه الذرائع، بل نحن أمام مبدأ لا يمكن للتوافق حوله أن يكون غير توافق مبدئي.
والحال أننا نجد داخل المجتمعات الغربية الكثير من مظاهر الاحتفاء بالتفوق العلماني والعقلاني، لكن المحتفين عادة ما يبرزون ذلك التفوق ويؤكدونه، فقط في مواجهة الوافدين الجدد على الحضارة الغربية، من الأصوليات الدينية الأخرى، إنه احتفاء إذاً يتخذ شكل حفلات تنكرية تخفي العصاب الصليبي الوسواسي، الذي يعاني منه بعض سادة العالم.
ألسنا نرى كيف أصبح خطاب سادة العالم مهووساً بإطلاق اسم الحملة الصليبية، حتى حين يريد أن يصف الحرب على المخدرات أو على الاعتداء الجنسي على الأطفال، فما بالك وهو يصف الحرب على الإرهاب، ويصطلح عليها اسم الحملة الصليبية على الإرهاب؟
وفي المقابل، فمن الخطأ الجسيم أيضاً أن نعتقد، من جهتنا، أننا قد نتمكن من مواجهة المكبوت الديني الصليبي عبر استدعاء المكبوت الجهادي، كما يرى أيمن الظواهري وبعض مُريديه ومُبايعيه. فحين يتحدث المنظر الأيديولوجي للقاعدة عن الحرب الصليبية، فالأمر هنا لا يتعلق بأكثر من تبادل للأدوار التحريضية بين العصاب الصليبي لدى البعض هناك، والعُصاب الجهادي لدى البعض هنا، إنه تحالف يخرج منه الجميع خاسراً، ويخرج منه العقل خائباً منكسراً.
حين نطلق ذلك النوع من التحذير، فإننا نحذر، في واقع الحال، من حلقة مفرغة قد نكون جميعنا متورطين فيها، وإن بدرجات متفاوتة وبأمزجة متهافتة، فكثيراً ما كان رواد الجيل الأول للحركة الإسلامية يحملون في قلوبهم إعجاباً قوياً بإسرائيل، لا يضاهيه إعجاب، ولا يترددون في دعوة المسلمين كافة، إلى ضرورة استلهام إسرائيل نموذجاً لدولة عرفت كيف تسترد وجودها وتستمد قوتها، انطلاقاً من عودتها إلى دينها، علماً بأن دينها مزور وعنيف، فما بالكم بديننا الحنيف الذي لم يتعرض للتحريف، أو هكذا كان يُزايد الرواد المؤسسون للحركة الإسلامية على إسرائيل، مستلهمين أيضاً نموذجها، فيما زاد انتصار إسرائيل في حرب حزيران من بريق التجربة وجاذبية النموذج، أمام أعين الحركات الدينية من كل الدول والمجتمعات، سواء العربية منها أو الغربية. ألا يحب الجيل الحالي للحركة الإسلامية أن يردد دائماً بأن انتصار الولايات المتحدة الأميركية في الحرب الباردة، وانبثاقها كقوة عالمية منفردة، لا يتناقضان مع الحضور القوي للدين داخل الخطاب السياسي الأميركي، إن لم يكن من أبرز نتائجه؟
ألسنا، بعد كل هذا، مجرد رجع صدى للخطاب الغربي، وأننا نكون كذلك، حتى حين نرفع شعار الإسلام هو الحل؟

* باحث في الفكر الاستراتيجي ـــ المغرب