نزار عبوديرى دبلوماسيون أنّ السعودية شاءت أن تغتنم اللحظة، ولم تسع إلى خلق لحظة سياسية خاصة. أدركت الرياض بعد أوروبا والولايات المتحدة أن كل الطرق تتقاطع في دمشق، وأن كل المفاتيح لديها. وكانت بذلك إلى حدّ ما، أكثر ذكاءً من القاهرة. فعندما كان مقرن بن عبد العزيز ضيفاً في دمشق، حل الرئيس حسني مبارك ضيفاً على المنامة ساعياً إلى تسميم العلاقات البحرينية ـــــ الإيرانية. كان كلّ يغني على ليلاه، بالرغم من أن القاهرة والرياض تبدوان كأنهما تتبعان نظام بثّ رقمي موحّداً.
بعد الإحراج الذي سبّبته غزة، والإحراج الذي سبّبه رئيس وزراء تركيا رجب طيب أردوغان للعرب في دافوس، فقدت دول «الاعتدال» تماسكها السياسي الشكلي. وهذه الدول لا تتحرك عادة من منطلقات جيوسياسية واضحة، بل تخبط خبط عشواء بأسلوب ردات الفعل، وأحياناً تخطئ قراءة رغبات «الحلفاء من طرف واحد».
السياسة السعودية توصف بـ«بزنس المال». لا تقدم كتاباً سياسياً وخريطة طريق، لكنها تقدم دفتر شيكات. وعندما حاول الملك عبد الله بن عبد العزيز الخروج بقضية نظرية بتنظيم مؤتمرات حوار الأديان في مكة ومدريد ونيويورك، ارتدّ السحر عليه. ودفع وشيخ الأزهر ثمناً معنوياً باهظاً بجلوسهما مع شمعون بيريز في غرفة واحدة والاستماع إلى بعضهما بعضاً.
لم يكن خطاب الملك عبد الله مقنعاً لأي مسلم وهو يتلعثم في قراءة آية قرآنية قصيرة. وممّا زاد في إحراجه، استباحة غزة على النحو الذي جرى حتى دون قبض ثمن المؤتمرات، على الأقل بإيصال ضمادات للجراح النازفة. وعدت السعودية بتبرعات سخية، لكن معابر غزة بقيت مغلقة، ولم تفلح دبلوماسية الرياض في فتح حتى معبر رفح.
حاولت الرياض شراء موقع بحوار الأديان وفشلت. شعرت باقتراب الحبل الإسرائيلي من عنقها من جهة، وبانكشافها على الجماعات المتشددة في الداخل من جهة ثانية. فلجأت إلى رأب الصدع مع دمشق كأقصر طريق لاكتساب دور قومي بديل ما دامت لم تعد قادرة على شهر سيف التطرف الديني كما كانت تفعل في وجه الشيوعية والقومية. وأدركت أن دمشق توصل إلى فلسطين ولبنان والعراق وإيران وتركيا وحتى إلى أوروبا. كانت فرنسا قد أدركت ذلك ولم تبلع السنّارة بعد فوزها بعقود مليارية من الرياض أثناء زيارة رئيسها نيكولا ساركوزي.
المفوّضة الأوروبية للعلاقات الخارجية والسياسات الأوروبية للجوار في الاتحاد الأوروبي بينيتا فيريرو ــ فالدنر، شددت بعد زيارتها دمشق على ضرورة التعجيل بتوقيع معاهدة الشراكة مع أوروبا، وأثنت على دور سوريا الإقليمي. ثلاثة وفود من الكونغرس الأميركي زارت سوريا أخيراً، أحدها برئاسة جون كيري، كبير الديموقراطيين. وأدركت الرياض أن العلاقات العربية تتوازن في مثلث رأسه دمشق وزاويتاه الأخريان القاهرة والرياض. وأي ضرر يصيب إحدى الزوايا، يؤثّر حكماً في الزاويتين الثانية والثالثة. وكانت الرياض قد تلقّت نصائح من أعلى مستويات غربية بالتعجيل بالمصالحة مع دمشق قبل مجيء أوباما إلى السلطة. إلا أنها كانت تخشى غضب ديك تشيني وجورج بوش وآثرت إرجاء الأمر إلى ما بعد تسلّم أوباما البيت الأبيض.
لكن، يبقى السؤال المطروح: كيف سينعكس التقارب السوري ـ السعودي على الانتخابات اللبنانية؟
المعروف عن السعودية أنها لا تجيد الألعاب الاستراتيجية. وهي عندما تدعم فريقاً ضد آخر، لا تحسب حسابات الربح والخسارة في المعادلة النهائية. تماماً كالمناصر لفريقه الرياضي الوطني، يحبه رابحاً أم خاسراً. وبالتالي من المستبعد أن توقف الرياض تقديم المال السياسي إلى فريق 14 آذار، بغض النظر عن المردود الفعلي لهذا «الاستثمار» في زمن لم يعد فيه أحد يحسب الخسائر المالية.
بالنسبة إلى دمشق، لبنان سيبقى يمثل مصدر خطر إقليمي كبير. ومن لا يكون له قول في لبنان، لا يكون له قول في أي مكان آخر في الشرق الأوسط. كل المخاطر يمكن أن تأتي من لبنان دفعة واحدة، لكونه رقعة الصراع على المنطقة. حقيقة تعرفها إسرائيل وأوروبا والولايات المتحدة. وضبط لبنان يضبط أمن الشرق الأوسط. فمن ثُغر الغربال الأمني اللبناني، يستطيع أي لاعب النفاذ إلى أبعاد إقليمية واسعة.
جميع أجهزة الاستخبارات تعمل في لبنان، وقادرة على التجنيد وشراء الجنود بأثمان تصل أحياناً إلى حد التطوع المجاني. لبنان كما يراه البعض، «ساحة لأسلحة الدمار السياسي الشامل». بل إنه الساحة الوحيدة في المنطقة المفتوحة لهذا النوع من الأسلحة. وكان اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، أحد مظاهرها، وأريدَ منه قصم ظهر دمشق وظهر المنطقة من ورائها، لو لم يكن الصمود.

* من أسرة الأخبار