تزهو حارات المدينة العتيقة في صيدا بالثوب الجديد لسوق النجارين فيها جرّاء انتهاء أعمال إعادة التأهيل التي بادرت إليها جمعية محمد زيدان لإنماء صيدا. وورشة التأهيل هذه من مجموعة أعمال مشابهة قائمة على مبادرات فردية، وبالرغم من ذلك تسهم في تنمية السياحة وإعادة تفعيل مهن تكاد تنقرض
صيدا ــ خالد الغربي
يرفع درويش أبو زينب إزميله ليطوّع لوحاًَ من الحديد ويحوّله معطفاً يحمي خيمة خشبية أمام المحال التي ارتدت حلة جديدة في أسواق صيدا القديمة. يعشق هذا الشاب الصيداوي مهنته التي تعلّمها من والده، ويبدو سعيداً بعمله الذي يشعره بأنه يعيد الاعتبار للسوق وللمدينة القديمة: «أجمل ما خلقه الله على الأرض»، كما يؤكد، متوقعاً نقلة نوعية للسوق بعد تأهيله.
وهذا ما تبدو أم محمد كعوش واثقة منه أيضاً. هي لا تخفي سعادتها بالحلة الجديدة للسوق، ولاحظت ازدياداً في حركة السياح ووافدين جدداً من مناطق لبنانية متعددة. تشير بيدها إلى درج منزلها وتقول: «شوف ما أجمل السلم، طلعة البيت صارت غير شكل».
يبدو المشهد جميلاً بعد أعمال التأهيل، إذ تزيّن المنحوتات الخشبية أبواب المحال ونوافذ المنازل في حارات المدينة العتيقة لصيدا. يزيد من جمالها الحجارة الرملية التي لحظ مشروع إعادة التأهيل عملية إزاحة الباطون عنها، إضافة إلى تزيين السلالم بإنارة ضوئية تضفي طابعاً رومانسياً على المكان ليلاً.
يشرح رئيس اللجنة الفنية لمشروع تأهيل سوق النجارين المهندس خضر بديع أن المشروع يهدف إلى ترميم وتأهيل أكثر من 58 منزلاً و50 محلاً حُدّدت لها مواصفات فنية موحدة بكلفة مفتوحة من دون تحديد مسبق لسقف الإنفاق: «لأننا لم نضع قالباً جاهزاً للتنفيذ، بل يكتسب العمل أهميته من خلال العمل الميداني». ويلفت إلى أن كثيراً من الثغر تم تلافيها من خلال التخطيط على الأرض ومنها «تمتين أساسات المحال والمنازل بحيث لا يقتصر التأهيل على الشكل الخارجي، إضافة إلى تحرير بعض المخالفات الهندسية القديمة التي كانت قائمة».
ويؤكد بديع أن الهدف من قيام جمعية محمد زيدان (التي تعيد حالياً تأهيل سوق البازركان التاريخي بالمواصفات الفنية ذاتها) بمشروع تأهيل السوق «ليس فقط إبراز جمالية المكان وتأهيل بناه التحتية، بل التركيز أيضاً على البنى الاجتماعية في محاولة للإبقاء على السوق ومساعدة من بقي من الحرفيين العاملين فيه عبر توفير شبكة أمان لهم». ويلفت إلى نجاح المشروع في خلق فرص عمل تطلبها تنفيذ المشروع.
يعدّ سوق النجارين أحد أقدم أحياء صيدا. وجد مع وجود المدينة القديمة واتخذ تسميته الراهنة، التي يحملها منذ أكثر من قرن ونصف قرن، منذ تحوّل إلى مكان تتمركز فيه مستودعات الخشب وتنتشر فيه محال النجارة العربية بكثرة، وفق ما يؤكده ابن المدينة المؤرّخ الدكتور طلال المجذوب. يذكر المجذوب أن الخشب كان يصل إلى السوق عن طريق ميناء المدينة، ويدخل من بوابة البحر أو عبر بوابة الشاكرية. ما ساهم في فتح المزيد من محال النجارة حتى بات السوق عاصمة النجارة في المنطقة على الرغم من مساحته الصغيرة. وقد لعب السوق لعقود دوراً اقتصادياً وتجارياً مهماً في اقتصاد محلي ناشئ، لكنّ وظيفة أخرى ميّزتها بفعل تكوّنها من عائلات صيداوية من مختلف الطوائف الدينية: مسلمون ومسيحيون ويهود. فمن جهة، تعدّ سوق النجارين امتداداً لـ«حارة اليهود» المتفرّعة شمالاً من السوق، ولا يزال الكنيس الصغير موجوداً فيها رغم أن أبناء الحارة غادروها تباعاً منذ أواخر الستينيات حتى عام 1985. أما عند مدخل سوق النجارين فنجد مطرانية الروم الأرثوذكس التي تقام فيها الصلوات أسبوعياً، فيما يؤم المصلّون المسلمون مسجد بني النقيب وسط السوق.
يروي أحمد أبو ظهر، نقلاً عن جدّه الذي كان من أوائل الذين استوطنوا سوق النجارين، أن حروباً ومطاردات على الخيول جرت في السوق بين من تعاقبوا على المدينة من غازين وجيوش محتلة ومناهضين لهم من الوطنيين. وكانت محال السوق ذات الأرضية المنخفضة ملاذاً آمناً لهؤلاء الوطنيين بحيث تمرّ الخيول ولا ترى طرائدها. كما يتذكر أبو ظهر أن جدّه أخبره كيف اشتهر السوق بصناعة العلب الخشبية التي تقدم فيها الحلوى للملوك والسلاطين، وكانت تصدّر إلى الخارج، وكذلك عن توفير صناديق خشبية كجزء من «جهاز العروس»، لا سيما الأميرات منهن، فضلاً عن تولي أصحاب المحال تسييج البساتين بالأخشاب.
يتمنى مصطفى الشعراوي الباقي في السوق مع من بقوا عودة النزر القليل منها، آملاً أن تساهم التحسينات والوضع الهندسي الجميل للسوق مع عملية التأهيل والترميم الجارية.
فقد تراجع عدد محال النجارة في السوق منذ سنوات، وباتت معدودة على أصابع اليد الواحدة بعدما أطاح استخدام الوسائل العصرية والكهربائية والحداثة تلك المهنة الحرفية الخشبية التي تصنّع الكراسي والقباقيب والطاولات المستديرة الصغيرة ومناخل العجن. وما بقي صامداً من المحال بدا كأنه لن يلقي السلاح، محافظاً على وراثته لمهنة الآباء والأجداد على الرغم من أن ما ينتجه هؤلاء من أعمال يتدبر أمر تصريفه من يهوى اقتناء هذه المنتجات بوصفها «تحفاً» تزيّن منازلهم، فضلاً عن السياح الذين تستهويهم بعض المعروضات الخشبية.
أسواق صيدا القديمة التي يعاد تأهيلها، سواء عبر المبادرات الفردية أو عبر مشروع الإرث الثقافي المموّل من البنك الدولي، لا تزال قاصرة عن تحديد وظيفة هذا التأهيل وهدفه، وقد لا تكون المتطلبات التي تقف وراء هذه التأهيلات نابعة من وظيفة اجتماعية تاريخية، أملتها ضرورات ووظائف أخرى خدماتية واقتصادية كتنمية السياحة، مع إهمال البنى الاجتماعية وعدم تأهيلها. فلم تُدرج في الإرث الثقافي الناحية الاجتماعية، إذ وضع الكثير في الناحية العمرانية ووضع القليل جداً في الناحية الإنسانية والاجتماعية، مثل تطوير المهن لكي تتماشى مع تطوّر الأسواق، ويبدو أن التحدي الكبير يكمن في ضرورة لحظ «التنمية المدنية» وتطوّر المناطق مع سكانها، ليس فقط تأهيل الحجر بل إعادة التحدي بتأهيل الوضع الاجتماعي والمعيشي لسكان المدينة القديمة.