مصطفى البسيوني *«الدفاتر دفاترنا، والمركز مركزنا»، قالها صلاح منصور بطل فيلم «الزوجة الثانية» لمخرج الواقعية صلاح أبو سيف، ليثبت بها أن عمدة قرية مجهولة في ريف مصر، أقوى من القانون الذي يفترض أن يحرسه. عبارة مخرج الواقعية التي تحولت إلى نادرة يسخر بها المصريون من صغار أصحاب المناصب الذين يستخدمون نفوذهم ضد البسطاء، أصبحت في حدّ ذاتها قانوناً يفرض نفسه، ليس على مستوى الصغار فقط، ولكن على المستوى القومي.
ربما تكون الأحكام الثلاثة لمحكمة مجلس الدولة الصادرة في شباط / فبراير 2009، هي التعبير الأمثل عن هذه المقولة. فقد صدرت الأحكام الثلاثة باستمرار تصدير الغاز المصري لإسرائيل، واستمرار الحرس الجامعي، واستمرار غلق معبر رفح. الأحكام، وإن لم تكن نهائية، أوقفت تنفيذ ثلاثة أحكام سابقة تقضي بوقف تصدير الغاز لإسرائيل وإلغاء الحرس الجامعي وفتح معبر رفح!
هكذا يبدو الأمر بسيطاً، كما عبّر عنه صلاح أبو سيف في فيلمه. فالمحاكم أيضاً محاكمنا والقوانين قوانيننا، وإذا احتاج تصدير الغاز وبقاء حرس الجامعة وغلق المعبر لبعض الأحكام من «محاكمنا»، فما المانع؟
ولكن هل تحتاج هذه الأمور بالفعل، إلى حكم محكمة، أو بوضوح أكثر، هل يحتاج النظام الحاكم في مصر إلى مرجعية قانونية أو شرعية برلمانية لتنفيذ سياساته. الواقع أنه على مدى عقود طويلة، لم يكن النظام الحاكم يلتفت إلى مثل تلك التفاصيل. بل على العكس، كانت الأحكام القضائية تصدر فقط ليجري تجاهلها من جانب النظام. فعلى مدى دورات برلمانية عدة، صدرت أحكام قضائية نهائية ببطلان عضوية نواب تابعين للحزب الحاكم وبطلان الانتخابات البرلمانية، ولم تنفذ، وتصدى لها رئيس مجلس الشعب فتحي سرور، بعبارته التي صارت شهيرة: «المجلس سيد قراره»، وكذلك الأحكام التي كانت تصدر ببطلان الانتخابات العمالية التي لم تنفذ أبداً.
لقد تعامل النظام في مصر طوال الوقت مع مسألة تطبيق القانون وأحكام القضاء، كما لو كان نظاماً فوق القانون. وما ردّده دائماً عن دولة المؤسسات والقانون لم يكن يتجاوز بالفعل وسائل الإعلام.
كان تعديل المادة 76 من الدستور للسماح بانتخابات رئاسية، بين أكثر من مرشح، مثالاً قوياً على الطريقة التي يتعامل بها النظام مع القانون والدستور أيضاً. ففي ظل الضغوط الخارجية، اضطر النظام لتعديل نظام الاستفتاء على رئيس الجمهورية، لانتخابه من بين أكثر من مرشح. وما جرى، سواء كان تعديل الدستور، أو وضع شروط الترشح المانعة، وحتى الانتخاب، لم يعبّر إلا عن أن «الدستور أيضاً دستورنا».
هذه الروح الأبوية في الحكم، تجلت بوضوح في ثلاث قضايا كبرى هزت الرأي العام في مصر. الأولى قضية العبّارة التي راح ضحيتها أكثر من ألف غريق، وقررت لجنة تقصي الحقائق بشأن غرقها، عدم صلاحيتها للإبحار وحمّلت صاحبها المسؤولية.والثانية، قضية أكياس الدم الملوثة التي اتهمت فيها إحدى الشركات الصحية الكبرى. والثالثة قضية مقتل المغنية اللبنانية سوزان تميم التي اتهم فيها أحد كبار رجال الأعمال هشام طلعت مصطفى بالتعاون مع ضابط سابق بأمن الدولة.
القضيتان الأولى والثانية حصل المتهمان فيهما على البراءة، وإن كانت الأولى أعيدت للمحكمة بقرار من النائب العام. والثالثة، التي تضمنت جريمة قتل مواطنة لبنانية على أرض إماراتية، فرض فيها حظر النشر ومُنع الصحافيون من حضورها.
العامل المشترك بين القضايا الثلاث، أن أبطالها من رجال لجنة السياسات بالحزب الوطني الحاكم، ومن المقربين من دوائر السلطة. حتى الجرائم من العيار الثقيل التي تحمل طابعاً جنائياً لا سياسياً، يجري التعامل معها على طريقة عمدة القرية في الفيلم ذاته.
في الوقت نفسه، يبدو النظام أقل تسامحاً مع المعارضين له، ولا يبدو عليه دائماً التقيد بالقوانين. فعندما وجد أن القضاء المدني لا يسعفه في معاقبة المعارضين، لا من حيث مدة التقاضي ولا من حيث غلظة العقوبة، أحال معارضيه إلى القضاء العسكري لتخرج الأحكام في لمح البصر وبالدرجة التي يريدها النظام.
ومن المألوف أن تقضي المحكمة أو النيابة بالإفراج عن متهم سياسي، فيُعتقل بموجب قانون الطوارئ. وكان مثال أيمن نور المرشح لرئاسة الجمهورية، الذي حكم عليه بالسجن خمس سنوات بتهمة تزوير توكيلات، منها توكيلات لزوجته وأقاربه، وكان من المقرر أن يخرج من السجن بعد انقضاء نصف المدة بموجب قواعد العفو، ولكن القواعد تغيرت خصيصاً كي لا يخرج منافس الرئيس من سجنه... إلا حين يرغب خاطر هذا الأخير، وهو ما حدث منذ أيام. إلى هذه الدرجة يمكن أن تصبح مؤسسات الدولة وقوانينها مجرد أدوات في يد النظام الحاكم. ولكن إذا كان هذا النظام لا يتردّد في استخدام كل صلاحياته في حماية قاتل أو فاسد أو مزور، ويتطرف في معاقبة معارضيه لدرجة تنال من هيبته، فهل سيترك مصير قضايا هامة تتعلق بعلاقاته الخارجية واستقراره الداخلي معلقاً بحكم محكمة.
هل كان من المتصور أن يوقف النظام ضخ الغاز المصري لإسرائيل وينصرف حرس وزارة الداخلية عن الجامعات ويفتح معبر رفح، لا لشيء إلا لأن المحكمة قضت بذلك، ولتذهب علاقات النظام بأميركا وإسرائيل إلى الجحيم، ولتنطلق الحركة الطلابية حيث أرادت دون قمع؟ تبدو مشاهد فيلم «الزوجة الثانية» أكثر واقعية بكثير من مشهد كهذا.
تاريخ القضاء المصري مليء بالأحكام التاريخية التي انتصرت للحريات وللرأي العام، مثل الحكم ببراءة كل المتهمين في قضية انتفاضة كانون الثاني / يناير 1977، وحكم براءة سائقي سكة الحديد من تهمة الإضراب في 1986، وهو الحكم الذي أقر حق الإضراب، استناداً للاتفاقيات الدولية وأحكام المحكمة الدستورية العليا ببطلان مواد في قانون النقابات وقانون العمل، وأحكام عديدة لا يتسع المجال حتى لسردها. ومثلما مثلت هذه الأحكام تحدياً لسياسة الدولة وقتها، تحدت الدولة هذه الأحكام بسياسة أكثر عنفاً. فأحالت المتهمين المدنيين على المحاكم العسكرية كي لا تصدر أحكام براءة أخرى، وردت على الحكم بحق الإضراب، باقتحام إضرابات العمال في 1987 و1988 و1989 والسنوات التالية، ولم تخلُ تلك الاقتحامات من اعتقال العمال وتعذيبهم، وحتى إطلاق الرصاص عليهم. والأحكام التي فضحت تزوير الانتخابات تلاها تزوير أفضح للانتخابات، سواء البرلمانية أو النقابية أو الرئاسية. وكان المبدأ دائماً واحداً «الدفاتر دفاترنا والمركز مركزنا».
اللافت أنه بعد صدور الحكم باستمرار تصدير الغاز بأيام خمسة، وبعيداً عن الجدل القانوني والفقهي حول الحكم، أضرب عمال التعبئة بالشركة المصرية للأسمدة عن العمل. أضرب العمال عندما علموا أن الأسمدة التي يعبّئونها سوف تصدّر لإسرائيل عبر معبر العوجة على شاحنات تحمل لوحات أردنية. وكان ثمن الإضراب خصم أجرة 15 يوماً لكل عامل أضرب عن العمل. أصدر العمال حكمهم ونفّذوه على الفور ودفعوا ثمن حكمهم هذا.
لا يمكن رفض النضال القانوني ورفض استخدام الأدوات القانونية في استصدار أحكام قضائية قد يصدر بعضها بالفعل، ولكن هذه الأحكام لا تمثل قوة في حد ذاتها، ما دامت الدفاتر دفاترهم والقوة كلها قوتهم. ولكن تكتسب هذه الأحكام قيمة حقيقية، عندما تصبح بعض الدفاتر وبعض القوة قوتنا.
* صحافي مصري