سلامة كيلة *أزمة الرأسمالية التي لم تبدأ بعد بكل أبعادها، دفعت العديد من الماركسيّين السابقين، إلى المسارعة لتأكيد أن لا أفق إلى الآن لتجاوز الرأسمالية، وبالتالي، ليس على اليسار إلّا أن يعمل «من داخلها»، فقد تكون رؤاه وبرامجه أفيد. الفكرة الجوهرية هنا هي «أن عالمنا رأسمالي، وسيظلّ يتطوّر في ظل الرأسمالية طويلاً»، وهي الفكرة التي يبنى عليها نقد كل التوجهات اليسارية، لأن «من يأنف العمل للتطور في ظل الرأسمالية، فسيظل يخلق معادلات فكرية لكيفية معاكسة الأساس الذي تقوم عليه الحياة الاجتماعية». وهنا يبدو أن الرأسمالية باتت من مؤبدات الحياة الاجتماعية لا ظاهرة تاريخية.
لنتساءل لماذا الرأسمالية باقية طويلاً؟ وبالتالي لماذا نعمل من أجل التطوّر الرأسمالي ومصالحنا المباشرة في تضادّ معها؟ وبالتالي كيف نقنع ذوي «الحس السليم»، الذين يعانون اضطهادها مباشرةً، بضرورة أن نقبلها إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً؟
من الطبيعي أن «عالمنا رأسمالي»، فهذه هي مشكلتنا، وبالتالي هذه بديهية ننطلق منها، وأساس نقيم عليه كل تصوّراتنا واستراتيجيّاتنا. لكن بأي أفق؟ هل من أجل تكريسها أم من أجل تجاوزها؟ كل سؤال من هذين السؤالين يفترض التبرير، التحديد المنطقي، وإلّا عبّر عن ميل «أيديولوجي»، وعن مصالح.
طبعاً يمكن أن يعتقد أيّ كان، بأن الرأسمالية باقية إلى زمن طويل، وبالتالي يجب أن يتقبّلها كحقيقة «نهائية» (إلى زمن طويل). فهذا نتاج مصالحه ربما، أو نتاج إحساس يتملّكه. لكن، ولكي يؤسّس على وعي معرفي، يجب أن يجيب عن الـ «لماذا؟».
يمكن أن يشار، لتأكيد هذه الفكرة، إلى تركيا ومصر كمقارنة، وإلى أوروبا الشرقية. بهدف القول إن «الرأسمالية ما زالت تتيح المجال للتطور الاقتصادي والاجتماعي». لكن ذلك يتجاهل أن مصر اليوم رأسمالية لكنها تخلّفت عما كانت عليه في المرحلة الناصرية، وأن أوروبا الشرقية تطوّرت في ظل الاشتراكية قبل أن تنضم إلى الاتحاد الأوروبي. بمعنى أن التطور تحقق في ظل نظام شعبوي (الناصرية) واشتراكي (أوروبا الشرقية) لا في ظل الرأسمالية. وأن تجربة القرن العشرين أوضحت أن التطور الصناعي الحقيقي، وانتصار الحداثة تحقّقا في إطار تجارب اشتراكية.
حتى الهند تطوّرت عبر دور الدولة الاقتصادي وبالتعاون مع الاتحاد السوفياتي. وأن تركيا تطورت أكثر قليلاً من مصر، لكنها ما زالت في العالم الثالث، وربما كان دورها الإقليمي قد ساعدها على أن تحقق هذا التطور، لكونها «حاجة أوروبية»، وهو الأمر الذي جعلها عضواً في حلف «الناتو».
وإذا كان يمكن الإشارة في هذا المجال إلى كوريا الجنوبية، فقد تطورت عبر دور الدولة، وبإشراف ودعم مالي أميركيين مباشرين لأسباب سياسية بالتحديد.
إذن، الرأسمالية تتطور في المراكز، وهي الآن تصاب بأزمة عميقة، لكن الأطراف لم تتطور إلا من خلال تجارب اشتراكية، بغضّ النظر، أبقيت اشتراكية أم انهارت كنظم اشتراكية، حيث بقي التطور قائماً. وكان التطور الاقتصادي والحداثة المتحقّقان، الأساس الذي أفضى إلى الانهيار. وبالتالي حينما نعمّم الوهم بأن القناعة ببقاء الرأسمالية تفرض أن نقبل بها، وألّا نسعى لتجاوزها نكون كمن يحكم على مجتمعه بالبقاء متخلّفاً مفتّتاً، ومحافظاً على بناه التقليدية وعلى الوعي الأصولي. وهو بالتالي طريق يوصل إلى ما يهدف كل الذين يطالبون بالرسملة إلى تجاوزه.
فهل من ممكنات لتطور رأسمالي في بلداننا؟ وقبلاً هل من برجوازية قائمة في بلداننا، وهي معنية بتحقيق التطور، الصناعي والثقافي والسياسي؟ إن التعلق بالرأسمالية يجعل أصحابه يتجاوزون الإجابة عن هذا السؤال. فالمسألة هنا ليست إرادية، بل تتعلق بالممكنات. ولحمل حلم برجوازي وتحقيقه، يجب أن يكون لطبقة مصلحة في ذلك. ولقد اتّضح عبر تاريخ المنطقة منذ قرنين، أن نشوء برجوازية كهذه كان محدوداً، وهو الأمر الذي جعلها لا تحقق ما تحقّق قبل قرون في أوروبا. وهو الأمر الذي أبقى بلداننا في وضعها المتخلّف القائم. وإذا كان هناك بديل لدور البرجوازية لتحقيق التطور الرأسمالي، فأين هو؟ نحن المقهورون والمضطهدون من الرأسمالية التابعة المحلية ومن الإمبريالية؟ وإذا أردنا، هل نستطيع لمّ الطبقات الشعبية خلفنا لكي تُنَصّب قاهريها في السلطة ومن أجل النهب، نهبها؟ لكن «الحس السليم» لدى هذه الطبقات، يدفعها إلى تجاهلنا، لا دعمنا. فهي تتعلق بأمل في التغيير لا بواقع تعيه جيداً.
المسألة تتعلق بالتكوين العالمي للرأسمالية، وقانون فيض الإنتاج، وبالتالي تعامل رأسمالية المراكز مع باقي العالم كسوق فقط، الذي يحافظ عليه كذلك عبر التفوق العسكري أولاً، والاقتصادي ثانياً. لهذا تصوغ العالم وفق مصالحها. وإن كان هناك منْ توصّل إلى أن «البنية الجديدة للعالم» تسمح بأن نتطور رأسمالياً، فقد بنى تصوّره على وهم. وهذا الطرح متخلّف أكثر من قرن، حيث كان هذا التصور حول دور الشيوعيين، هو ما طرحه المناشفة في روسيا في مواجهة البلاشفة، وهو أيضاً التصور الذي طرحه خالد بكداش والحركة الشيوعية العربية عموماً منذ 1937، وظل كذلك إلى أن دعمت نظم «البرجوازية الصغيرة» التي كانت ترفع شعار الاشتراكية، لكنها كانت تبني الرأسمالية. ولا يزال يتردد لدى بقايا هذه الحركة.
ولقد كان هذا التصوّر في جذر الفشل الكبير الذي عاشته الحركة الشيوعية، لأنها راهنت على برجوازية لم توجد إلّا في الخيال (وربما كانت أحياناً تتمثّل في شخص مثل خالد العظم في سوريا الخمسينات). لهذا، بدل أن تقود العمال والفلاحين والبرجوازية الصغيرة لتحقيق التغيير وتحقيق التطور، أصبحت في ذيل البرجوازية الصغيرة ونظّرت لكل أوهامها، وبالتالي مآسيها.
هل نجرّب مئة سنة أخرى، إمكانات التطور الرأسمالي؟ فلننطلق من تحليل واقعنا، والإجابة عن السؤال بشأن ممكنات التطور، ودور الطبقات. وتفسير لماذا كل برجوازية عندنا تميل للتوظيف في قطاع التجارة والخدمات والمال، ولا تميل لبناء الصناعة أو تطوير الزراعة ومكننتها؟ حتى في البلدان الرأسمالية مثل المغرب، التي لم تحكمها أحزاب قومية، أو تونس أو مصر أو السعودية والخليج التي تمتلك ترليونات الدولارات؟ بمعنى لماذا يلقى على اليسار تحقيق الرأسمالية والرأسمالية تراكم المال دون أن تحقق شيئاً مما نعتقد بأنه يخصّها. وواقعها هو كما نراه في الواقع، حيث باتت هي المهيمنة، لكن ككومبرادور.
الرأسمالية قائمة الآن؟ نعم. لكنها تؤسّس من المشكلات ما يفرض تجاوزها. وهي قائمة وفق الوضع الذي نلمسه، حيث التفارق واضح بين أمم صناعية وأخرى زراعية أو مخلَّفة. أمم غنية وأخرى مفقرة. وهذه الأمم المخلَّفة والمفقرة ليست هي كذلك بإرادتها، بل بفعل التكوين العالمي الذي فرضته الرأسمالية ذاتها. وهو الأمر الذي جعل البرجوازية المحلية جزءاً من حلقة مركزها الرأسمال الإمبريالي، وليس بمقدورها، أو في طموحها، أن تتصادم معه. وبالتالي فإنّ تحقيق التطور الضروري لكي تبقى هذه المجتمعات، يفرض تجاوز الرأسمالية، واليسار هو الذي يفعل ذلك. هذه هي مهمته. فقبل تحقيق الاشتراكية، يجب أن تتحدث هذه المجتمعات وأن تتصنّع، وليس من طريق سوى الاشتراكية، حيث كل الطرق الأخرى مغلقة. وكما أشرت للتو، فإن كل الأمم التي خاضت تجربة اشتراكية، استطاعت أن تتصنع وأن تتحدث عكس كل التجارب الرأسمالية، فيما عدا الاستثناءات. هذه هي خلاصة تجربة القرن العشرين.
* كاتب عربي