Strong>نزهة في رحابة تاريخ عريق وغامض«وسط البلد» في القاهرة، لا وسط المدينة وحسب، هناك تشعر بأن العالم لا ينام. منطقة تحدّها ثلاثة ميادين، وتجتمع فيها مكتبات ومؤسسات إنتاج ثقافي وفني، وأمكنة للعشاق والأصدقاء ومؤسسات رسمية... المتنزّهون من مختلف فئات المجتمع المصري، هناك قد لا يتنبّهون كل لحظة إلى أنهم في ضيافة المنطقة التي أرادها الخديوي إسماعيل أجمل من باريس. لهذه الغاية، أحضر أشهر المهندسين من فرنسا وإيطاليا

محمد خير
العلامات المرورية والخرائط الجغرافية والأوراق الرسمية تتحدث عن منطقة «وسط القاهرة»، لكن الناس يعرفون ويعرّفون ذلك المثلث الجغرافي الصغير باسم «وسط البلد»، تمامًا كما أن هناك «أم الدنيا» واحدة فقط، تمامًا كما أنه لا يوجد أكثر من «محروسة»واحدة فحسب، هناك أيضاً «وسط البلد» واحد أو واحدة لا يهم، رغم كثرة المدن والبلدان، وكل منها لها منطقة «وسط»، «داون تاون» كما يقول الأجانب وتشرح المراكز الثقافية الأجنبية، إلا أن تسمية «وسط البلد» في مصر لا تعني سوى تلك المساحة الجغرافية الرحبة، مثلث رؤوسه ثلاثة ميادين: ميدان التحرير، وميدان رمسيس، وميدان العتبة الخضراء. لكل ميدان، وكل شارع وعطفة حكاية، بل قل حكايات.
في «وسط البلد» للنسمة ولأنفاس الناس وشخبطات الجدران ألف حدوتة، الحاضر نفسه حدوتة لا تنتهي ولا تريد ولا يريد لها أحد أن تنتهي، رغم ما لحق بالشوارع والبنايات من تحولات، ومن «مسخ» كما صرخ عادل إمام في «يعقوبيان» الفيلم، عن سيناريو وحيد حامد، عن قصة علاء الأسواني، عن رأي كل من عاش ونشأ في وسط البلد، أو شاهد وقرأ عنها، أو ارتبط بها بشكل أو بآخر.
لا يعلم أحد بالتحديد، في أية لحظة لمعت الفكرة في رأس الخديوي إسماعيل، وهو لم يكن قد أصبح خديوياً بعد، كان طالباً شابًا في باريس، طالباً بدرجة حفيد والي مصر «محمد علي باشا»، والابن الأوسط لإبراهيم باشا أحد أشهر القادة العسكريين في التاريخ المصري، لم يكن العلم قد اكتشف الجينات بعد، لكنها أدّت بالتأكيد دوراً لا سبيل فيه للصدفة، فمن الجد إلى الابن الذي اغتيل فانفطر قلب الأب عليه، إلى الحفيد «إسماعيل» ملمح وراثي لا شك فيه، الثلاثة أرادوا لمصر أن تكون درة الشرق، إمبراطورية مستقلة عن الباب العالي، كلّ بطريقته، وكانت إحدى أهم طرق «اسماعيل» الحفيد، أن يصنع لمدينته المفضلة الإطار الذي يليق بها، في لحظة ما، كان يمشي ـــــ دارساً ـــــ في شوارع باريس، منتصف القرن التاسع عشر، ثم ظهرت الصورة جلية متجسدة في ذهنه، سيصنع باريس أخرى في الجنوب، «باريس» شرقية مطعمة بدرر التاريخ المصري القديم، وبعد حوالى 15 عاماً، عندما تسلّم السلطة عام 1863، وأصبح لقبه «الخديوي اسماعيل»، بدأ تنفيذ مشروعه دون كلل، وخلال سنوات قليلة، بنى معظم ما عرف باسم القاهرة الخديوية، البنايات الفسيحة والقصور، الحدائق والميادين «البولفارات»، ودار الأوبرا التي احترقت بعد 100 عام ، وهو لم يستعن فقط بأبرز المهندسين الذي خططوا باريس الحديثة (آنذاك ) نفسها وعلى رأسهم «البارون أوسمان»، بل استعان أيضاً بعدد من أبرز المهندسين الفرنسيين والإيطاليين، الذين قرروا أن يجمعوا التراث الغربي والشرقي في عقد مرصع بالمهابة الفرعونية، هكذا أصبح لما عرف فيما بعد باسم «وسط البلد» طرازها الخاص الفريد الذي لا يشبه منطقة أخرى، وعندما انتهى أغلب العمل لم تعد وسط البلد تشبه باريس... لقد أصبحت أجملالشبان الصغار، الأولاد والبنات الذين يذهبون «للفسحة» في وسط البلد، والذين يختصرونها غالباً في شارع طلعت حرب «أبو الاقتصاد المصري»، الذي كان اسمه شارع سليمان باشا «مؤسس جيش محمد علي وجد الملكة نازلي من جهة الأم»، المتنزّهون في وسط البلد لا يذكرون التفاصيل، يتحركون في رحابة تاريخ عريق وغامض، وشوارع تتميز بأنها الوحيدة التي تضم مختلف فئات المصريين، مصر الحديثة شهدت العديد من أدوار الكراسي الموسيقية، فحلّت طبقات محلّ طبقات، وانتقلت فئات مجتمعية من مناطق إلى أخرى، بعضها ظل محتفظًا ببرجوازيته، مثل المعادي القديمة ومصر الجديدة، وبعضها حافظ على شعبيته مثل «السيدة زينب» و «مصر القديمة»، بعض الأماكن شهدت نزوحاً برجوازياً وانفتاحياً مثل «المهندسين»، والبعض « مثل مدينة نصر» ارتبط بالطفرة الاقتصادية للعائدين من هجرة البترول (الهجرة إلى الدول النفطية)، تبدلات وتحولات تدور كالإلكترونات حول النواة، وحدها «وسط البلد» رغم ما شهدته من تغيير سكاني كامل، ظلّت قلب القاهرة النابض، الأجانب تركوا البلاد، اليهود ذهبوا إلى فرنسا أو إسرائيل، الأثرياء أسسوا مجتمعاتهم الخاصة المغلقة خارج القاهرة، وتحولت الشقق الواسعة الفخمة إلى مخازن لمتاجر الملابس، أو إلى مقارّ حكومية كابية وفروع لشركات تأمين رسمية، ومقارّ حزبية ورثت مقارّ الاتحاد الاشتراكي، المتاجر لم تعد تعرض أحدث ما ينتجه المصمّمون العالميون، بل تحتفظ الفاترينات بسلع «وسيطة» لو صح التعبير، موديلات أزياء وصفوف أحذية أسعارها لا تثير فزع الفقير أو تجاهل الغنيّ، الكلّ جرّب أن يشتري من الباعة غير المدربين من أصحاب المؤهلات المتوسطة وفوق المتوسطة، أو من منافسيهم على الأرصفة. الجوّالون الذين يلعبون مع شرطة البلدية لعبة القط والفأر، للأبد، ينذرون بعضهم بعضاً فيحمل الشبان بضاعتهم البسيطة فوق رؤوسهم وينطلقون مختبئين في المداخل المهيبة، أو التي كانت مهيبة للعمارات الخديوية، ثم يعودون من جديد فيتحلّق حولهم شباب في مثل أعمارهم، يبحثون عن قميص مهرّب أو حذاء رخيص الثمن لأن به عيباً صغيراً لا يكاد يُرى، بالنسبة إلى أولئك، وإلى غيرهم ممن يحاصرون أشهر محلات الآيس كريم قبل أن يدخلوا السينما، تبقى وسط البلد فسحة، أجمل ما فيها أن لا أحد يعرف أحداً، وأنها تضم كل أنواع المقاهي والمطاعم، شعبية مصرية متواضعة الأسعار، أجنبية مموهة المدخل تقدّم البيرة، وبين هذه وتلك، يبقى الرصيف واسعاً رغم الزحام، لنزهة ـــــ مجانية ـــــ على الأقدام. بين أبنية شوارعها المتقاطعة المتوزاية على النسق الباريسي، المزدانة بالميادين الدائرية، ليس هناك نشاط بشريّ غير ممثل في وسط البلد، من مكاتب السفريات والطيران إلى المدارس الحكومية، من مقارّ الجمعيات الأهلية إلى ورش الجلود، من متاجر المجوهرات إلى الخطاطين مروراً بالمراكز الفنية والثقافية، والمكتبات، تلك الأخيرة، تزدحم مشكّلة معرضاً دائماً للكتاب بكل أنواعه، أقدمها مكتبات أجنبية كثيراً ما ارتادها الزبائن من العصر الكوزموبوليتاني، أما أكثرها رواجاً فهي مكتبات تخصّصت في الكتب الدينية والتراثية ذات التجليد الفاخر، لكن أشهرها المكتبتان المتواجهتان على طرفي ميدان طلعت حرب، «مدبولي»، و«الشروق»، أما الأحدث، فهي مجموعة من المكتبات التي شهدت الأعوام الأخيرة افتتاحها تباعاً في وسط البلد، مستفيدة من الرواج الأخير للكتاب في مصر، وخاصة الروايات، مكتبات معظم روّادها من جمهور الأدب الشاب، رفوفها ازدادت أناقة بفضل الاهتمام المتأخر برونق الغلاف في الكتاب المصري. حركة الكتاب المنتعشة أضيفت إلى حراك ثقافي أسهمت فيه مراكز فنية وثقافية شابة، باشرت نشاطها في وسط البلد في السنوات الأخيرة، من أشهرها «تاون هاوس» و «مسرح روابط»، وهي أماكن كوّنت جمهورها الخاص الذي جاء من خلفيات تبتعد عن خلفيات أماكن أكثر «عراقة « مثل «أتيليه القاهرة»، جمهور الثقافة الجديد ليس مسيساً ـــــ كأسلافه ـــــ غالبًا بل ربما يزدري السياسة، والمفارقة أن هذا الجمهور تعرّف إلى «وسط البلد» في الوقت نفسه الذي شهدت فيه شوارعها حراكاً سياسياً غير مسبوق، ارتبط بحركة «كفاية» وشبابها الذين صنعوا ما سمّي «مثلث الحرية»، هو مثلث لم يصنعه مهندسو الخديوي اسماعيل، بل الشباب الذين كثيراً ما اعتصموا وأضربوا وتظاهروا و«حوصروا» بين أضلاعه، أما رؤوس المثلث، فهي مقارّ «نقابة الصحفيين»، «نقابة المحامين» و«نادي القضاة»، الآن خفَتَ صوت «كفاية» وتفرّق معظم شبابها، لكن المثلث لا يزال يجمع الصارخين من أجل حقوق عامة وخاصة، يلجأون إلى سلالم نقابة الصحفيين التي كثيراً ما خاض المتظاهرون معارك من أجل «تحريرها»مثل القاهرة، مثل مصر نفسها، تحيا «وسط البلد» مراحل صعود وهبوط، ودوائر متداخلة في الزمان والمكان، هي تعدّ الآن قلب صناعة وإنتاج الفنون المستقلة، من سينما ومسرح وغناء، يعيش الشباب في شوارعها ويسهرون في مقاهيها، يسكنون بيوتها متشاركين الإيجار ويقدمون عروضهم ـــــ غالبًا ـــــ في المسارح المتواضعة لمراكزها الفنية، غير أنها كانت قبل 100 عام محلّ الإنتاج الفني التجاري في أبهى صوره، في شارع احتوى على ضريح صغير لشيخ اسمه «عماد الدين»، كانت المسارح تزدان بفنون نجومها الذين تصارعوا على الجمهور، هنا بنى سيد درويش مجده الموسيقيّ، وتنافست فرق يوسف وهبي ونجيب الريحاني وعلي الكسّار، أسماؤهم منقوشة الآن على لافتات زرقاء بشوارع صغيرة، الشوارع تفرعت من شارع «عماد الدين» الرئيسي الذي بهتت أبّهته وانطفأت أنواره، ليس به الآن سوى عدة دور عرض سينمائية فقيرة، وبنايات هائلة غطتها الأتربة وكساها الإهمال، وسيارات الأجرة بالجملة تتنافس على جذب الزبائن من نواصي مظلمة، واتجاه السير واحد مؤدٍّ إلى ميدان رمسيس الذي تتوسطه منصة حجرية خاوية ، بعدما خلا من تمثال الفرعون الشهير، ربما تدريجياً يعود إلى اسمه الأصلي «باب الحديد»، أو محطة مصر، محطة القطار الأضخم في المحروسة، تربط شمال الوطن بجنوبه، بدورها بناها الخديوي إسماعيل على طريقته المهيبة الهائلة، وبنى نسخة توأماً منها في الإسكندرية يسمّيها الناس أيضاً «محطة مصر».
كلام كثير يصح في وصف «وسط البلد»، ميادينها وشوارعها وتفرعاتها.
من ميدان رمسيس يمتد شارع اقتبس اسمه من اسم الميدان ، شارع رمسيس لم يكن اسمه كذلك عندما اغتيل فيه حسن البنا، كان مؤسس الإخوان المسلمين خارجاً من جمعية الشبان المسلمين في شارع « الملكة نازلي» الذي كان اسمه «عباس الأول»، العام هو 1949، استقل البنّا سيارة تاكسي توقفت بعد قليل في إشارة مرورية غير بريئة، اقترب منه رجل أطلق النار عليه، لم يمت فوراً لكنه لفظ أنفاسه في مقر الإسعاف، كانت تلك فترة تبادل اغتيالات بين جماعة الإخوان وبلاط الملك، إذ قبل ذلك بعام واحد اغتال أحد رجال النظام الخاص بالجماعة رئيس الوزراء «محمود فهمي النقراشي»، أثناء دخول الأخير مقر وزارة الداخلية. أما «جمال عبد الناصر» فقد جرت محاولة لاغتياله بالسمّ على يدي غارسون يوناني في أشهر مقاهي وسط البلد، «غروبي» الذي تأسس قبل 115 عاماً، الأسطورة تقول إن «ناصر نظر إلى الغارسون فارتبك الأخير وكاد يسكب القهوة فأثار الشك»، الواقعة تحكي عن تسرب معلوماتي تابعته المخابرات حتى أمسكت بالقاتل متلبّساً .
في مواجهة «غروبي» الذي توقف منذ سنوات عن تقديم الكحوليات، مواكباً المزاج المحافظ لمصر الآنية، يقبع على الرصيف المقابل كافيه «ريش» الأشهر على الإطلاق في وسط البلد، المقهى الذي لم يعد الآن يتمتع الوهج القديم نفسه، والمغلق في أغلب الأوقات، تأسس قبل 95 عاماً على مساحة شاسعة، واحتوى ــــــ في الأيام الخوالي ـــــ على مسرح وحديقة كثيراً ما تردّد فيهما رجع صوت «الآنسة أم كلثوم»، وعبر عشرات السنوات كان «ريش» منصة لإطلاق بيانات المثقفين، وساحة لاستيعاب إبداعاتهم، وخلافاتهم أيضًا، قبل أن يخبو تدريجياً ولا يبقى منه سوى صيته، أغلق لسنوات لترميم تصدعات سببها زلزال القاهرة عام 1992، وافتتح من جديد ولكن ليس كما كان.
عندما احترق أخيراً، المبنى التاريخي لمجلس الشورى المصري، والقاعة الرئيسية للمسرح القومي، وكلاهما في وسط البلد، عادت إلى الأذهان ذكرى حريق القاهرة في يناير 1952، كان الحريق القديم مروعاً كما تحكي الصور وأرقام الخسائر، وربما كان ـــــ كما يؤمن البعض ـــــ هو الذي عجّل بثورة يوليو التي غيّرت وجه مصر . اليوم عادت الحرائق تشتعل، لكن التغيير يبدو أكثر غموضًا، وأبعد، من أي وقت مضى.


مثلّث الرعب... والمراكز البديلة

في قلب وسط البلد يرتسم ما يسمّيه البعض تندّراً «مثلث الرعب»، ذاك المثلث الوهمي، الممتد بين ميدان طلعت حرب وشارع قصر النيل، يربط بين كافيتريات «النادي اليوناني»، «الجوريون»، و«ستوريل»، الأماكن الثلاثة تشتهر بروّادها من المثقّفين والسياسيّين والفنّانين، بمختلف تياراتهم ومشاربهم وتناقضاتهم، وإن غلب عليهم بصفة عامة اللون اليساري.
يلاحظ انحسار تأثير المقهى الشعبي التقليدي في المجال الثقافي لوسط البلد، باستثناء تجمّعات للمثقفين على مقهى «التكعيبة»، وبعض طاولات مقهى «زهرة البستان و«الندوة الثقافية». «مزيج الفن والشباب والحماسة» قد وجد لنفسه متنفّساً عبر المراكز الفنية المستقلة التي انتشرت في قاهرة السنوات الأخيرة وخاصة في وسط البلد، وقدّمت للشبان مساحات خالية وفقيرة كافية ليصنعوا فيها غناءً ومسرحاً وفنوناً تشكيلية، ليشكل المقهى مساحة استراحة ودردشة، كوب من الشاي وحجر «شيشة».