إسكندر منصور*انقشع الضباب أكثر وأكثر. التنسيق على أتمّه. حتى العدو تفاجأ من الالتزام التام بما اتّفق عليه. صمتُ وزير خارجيّة مصر أحمد أبو الغيط أمام تهديد نظيرته الإسرائيلية تسيبي ليفني، على أرض مصر، للفلسطينيين، كان أبلغ تعبير عن تواطؤ مصر على العدوان الإسرائيلي المقبل. الحدود مقفلة. وساعة الصفر حددت. وخلال الدقائق الخمس الأولى، كانت أشلاء الضحايا والشهداء في كل مكان.
وعاد الوزير المصري الذي سكت دهراً فنطق كفراً محملاً الضحيّة المسؤوليّة عما جرى لها. هذا جزاء من لم يستمع لـ«نصيحة» الشقيقة الكبرى مصر، فاتحة عهد «السلام» مع إسرائيل. لم يتطاول أحد على مصر وشعب مصر، بل إنّ نظام مبارك هو من تطاول على تاريخها وشعبها وشهدائها ودورها وعروبتها وإنسانيتها وكرامتها. لم يُطلب من مصر أن تعلن الحرب وإن كان في هذا المطلب صحة. طُلب من مصر فتح الحدود مع غزّة ليتسنى للجرحى الخروج إلى المستشفيات بعدما ضاقت بهم مستشفيات غزة التي قصفها الطيران الإسرائيلي، الأميركي الصنع، وليتسنى للمساعدات الطبيّة الدخول إلى غزة. جاء من يدافع عن موقف مبارك في إحكام الحصار على غزة باسم احترام المواثيق الدوليّة والاتفاقات والمعاهدات. فاتهم (المطالبين بفتح الحدود) أن مصر، البلد الذي يناهز الثمانين مليوناً، محكوم، كما الدول جميعاً، بالتزامات ومعاهدات ومواثيق. فاتهم أنّ مصر لن تفتح معبر رفح هكذا بحيث «تطيح رياح الغضب كل الحدود وتهدم السدود. هذا كلام أطفال» (حازم صاغيّة الحياة 30/12/2008).
طبعاً، كل ما يجري في غزة، ليس الآن فقط بل منذ أن أعلن الحصار، هو إما بتواطؤ، أو نتيجة عجز عربي كان بالنسبة لصاغيّة، تعبيراً عن احترام المواثيق الدوليّة والمعاهدات، وخاصة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي «تنتمي» إليه قلباً وروحاً كل من مصر والسعوديّة، وطبعاً باقي الأقطار العربيّة من دون استثناء، وأنّ الدعوة لفتح الحدود ومساعدة الجرحى «كلام أطفال».
لا يعرفون فقه القانون الدولي ومعنى الالتزام بالمعاهدات الدوليّة، وهم الخارجون عن القانون الدولي. ألم يكن المسعى الحثيث لقوى 14 آذار وإسرائيل وأميركا قبل حرب تموز وخلالها وبعدها، هو إقفال الحدود مع سوريا ومراقبتها؟ طبعاً منعاً لوصول المساعدة والإمدادات لحزب الله خلال العدوان وبالتالي هزيمته.
لنترك «كلام الأطفال» جانباً، ولنقرأ كلام الراشدين الذين عادوا بنا إلى التاريخ حيث خروج مصر من الصراع مع إسرائيل، «كان كفيلاً بإقناع من يحكم العقل بأنّ المواجهة انتهت وصارت مجرد مكابرة مكلفة. يومذاك، كان ينبغي إغلاق الملف بأي ثمن، لأنّ القوى التي ستستأنف الصراع، ليست مهيأة له، لا موضوعياً ولا ذاتياً، هذا فضلاً عن أن توليها المهمة، لن يحمل إلى المشرق المفتّت غير المزيد من التفتّت والاحتراب الأهلي» (صاغيّة الحياة (30 /12/2008).
هنا، يبدو صاغيّة من دعاة الاحتكام إلى «العقل» و«إغلاق الملف بأي ثمن»، وربما كان الـ«بأي ثمن»، يعني الاكتفاء بإعادة صحراء سيناء إلى مصر والتخلي عن الجولان والضفة وغزة وحق العودة ومياه لبنان، أو القبول بما تتصدق به إسرائيل على العرب. وللتاريخ، لقد قبل الكثيرون إغلاق الملفّ بثمن زهيد، لكن إسرائيل لم تقبل. لكن العقل لم يكن يحكم صاغيّة في ذلك الوقت، فاستعان بالثورة الإسلاميّة في إيران، ووجد في الخمينيّة ما كان ينشده ليعارض مصر.
ليس سراً أننا لسنا من أنصار سياسة حركة «حماس» وأيديولوجيتها. ولنا الكثير لنقوله بصدد سياستها ونهجها وممارستها قبل هذه الأزمة وخلالها وكيفيّة إدارتها. ولكن هذه الحرب، ليست كما يريدون أن يوهمونا، حرباً على الحركة الإسلامية «التي تمثّل العائق» الأول أمام السلام مع إسرائيل، والتي لولاها لكانت إسرائيل الآن خارج الضفة والجولان وفوق القدس يرفرف علم فلسطين.
في يوم ما، اختصروا العراق بصدام حسين وقالوا إنها حرب على صدام حسين وإنهم كانوا يقصفون صدام حسين، وكل من قُتل وجرح من مئات الآلاف من العراقيين، كانوا في المكان الخطأ والزمان الخطأ. وفي مناسبة أخرى، اختصروا لبنان بحزب الله وقالوا إن حربهم هي على حزب الله لا على لبنان، وطبعاً وجدوا آذاناً صاغية على أعلى المستويات اللبنانيّة والعربيّة. واليوم، يختصرون الشعب الفلسطيني نساءً وأطفالاً وشيوخاً بـ«حماس»، وإن كانت هي الحركة المنتخبة ديموقراطياً من الشعب الفلسطيني. ولو لم تقع «حماس في الفخ»، (حسان حيدر)، لما كانت هذه الحرب / الورطة، حيث تساءل علي حمادة (الذي لا يفارق معزوفته الأسبوعيّة بأنّ حزب الله هو الذي شنّ حرب تموز)، عن «من ورّط غزة» (النهار 27 كانون الأول 2008). طبعاً، الجواب عنده هو قوى الممانعة، ما يبرئ إسرائيل وحلفاءها العرب، وكأنّ سياسة إسرائيل دائماً عبارة عن ردات فعل لأفعال يقوم بها الممانعون. ولدحض هذه المعزوفة المستمرّة، صرح مسؤول كبير في الإدارة الأميركيّة لـ«واشنطن بوست»، أنّ الحرب التي شنتها إسرائيل قبل أن يضع أوباما قدماه في البيت الأبيض، جاءت على خلفيّة أن إسرائيل تعرف سياسة جورج بوش بالضبط، لكنها لا تعرف ردة فعل إدارة أوباما. إنها محاولة لخلق واقع جديد قبل قدوم الإدارة الجديدة، وربما هذا الواقع الجديد يؤخّر العمليّة السلميّة ويحدّ من اندفاعتها المرتقبة مع أوباما.
ما قاله المسؤول الأميركي هو بلا شك أحد الأسباب لهذه الحرب. أما السبب الآخر، فهو محاولة إسرائيل العودة بالإنسان العربي لروحيّة ما قبل تموز 2006، زمن الخوف والعجز وفقدان الثقة بالنفس؛ ومحاولة العودة بالإسرائيلي لروحيّة ما قبل تموز 2006 أيضاً، زمن الثقة المفرطة والقدرة على المستحيلات.
وأخيراً، ما يجري في غزة، سيكون حاضراً خلال جلسات الحوار المقبلة، المعنيّة بالتوصّل إلى استراتيجيّة دفاعيّة تستطيع أن تدافع عن لبنان في ظل أي عدوان إسرائيلي جديد. الاستراتيجيّة الدفاعيّة المطلوبة هي التي تحمي الأرض والعرض والإنسان. ليس المطلوب قواسم مشتركة بين الاستراتيجيات التي وضعت على طاولة الحوار. القواسم المشتركة تنفع في السياسة الداخليّة وكيفيّة مقاربة قضايا التّربية والعمل والحد من الهجرة وتأمين فرص العمل وتسويق نظام انتخابي جديد. أما متى كان الأمر يتعلق بالدفاع عن الوطن أمام إسرائيل، فليس هناك قواسم مشتركة وتنازلات مشتركة، بل استراتيجيّة واحدة وجواب واحد لسؤال واحد. كيف نحمي الوطن ونردع العدو من شنّ عدوان جديد.
* كاتب لبناني مقيم في الولايات المتحدة